صنعاء نيوز - علي المسعود: فيلم المخرج غودار (موسيقانا).. يكشف أثر الحروب في تدمير الشعوب.. ويناقش التغريبة الفلسطينية

الجمعة, 11-ديسمبر-2020
صنعاء نيوز -



علي المسعود
جان لوك غودار (1930) من السينمائيين القلة الذين يجمع المؤرخون على دورهم الحاسم في تغيير مجرى الفنّ السابع، أفلامه كانت مصدر إلهام عدد من المخرجين طوال السنوات الستين الماضية وأعماله التي أنجزها على مرّ الزمن والتحولات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية و التطورات التكنولوجية التي استطاعت تقديم فكر سينمائي لا مثيل له . خلق غودار لغة مزج فيها أسلوبه الخاص في الصورة والحوارات والمونتاج ليخلق سينما خاصة جماليّاً وفلسفيّاً ، كما اهتم كثيرا في نضال الشعوب من أجل الحرية والعيش بكرامة، و أهتم سينمائياً ونضالياً بالقضية الفلسطينية منذ زمن مبكر من حياته، وتحديداً منذ أواخر ستينات القرن العشرين وبدايات سبعيناته. في فيلمه (موسيقانا) أو ” نوتر ميوزيك ” يستكشف المخرج جان لوك غودار الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني باستخدام الكوميديا ​​الإلهية أوالملهاة الإلهية وهو شعر ملحمي ألفه دانتي أليغييري ما بين 1308 حتى وفاته عام 1321. يأخذنا المخرج الفرنسي في رحلة تبدأ من من الجحيم وتنهي بالجنة يقسم جودار فيلمه إلى ثلاث أجزاء – أو ممالك بثلاث مراحل ، الجحيم أو جهنم هي المملكة الاولى ، المطهّر وهي المملكة الثانية والتي ترمز الى الحاجز بين الجنة والنار، في (العقيدة الكاثوليكية الرومانية) مكان تسكنه أرواح الخطاة الذين يريدون أن يكفرون عن خطاياهم قبل الذهاب إلى الجنة ، اما المرحلة الثالثة هي مملكة الجنة. المشاهد الافتتاحية لفيلم جان لوك غودار”موسيقانا” (٢٠٠٤) .
نستمع الى تعليق صوتي بصوت أمراءة “انه لعجيب حقاً أن يبقى احدهم على قيد الحياة”، ثم يبدأ الجحيم وهو القسم الاول أو المملكة الاولى ، بعد الامطار واالفيضانات ، رجال مسلحون زحفوا من أرض وأبادوا، صورا لمعارك وقتال وجثث متناثرة ورؤوس مقطعة في كل مكان وكل أجناس، هنود حمر ، حروب صليبية ، قتل بالسيوف وجثث متناثرة ، ثم الحرب الاهلية في الولايات المتحدة الى حرب فيتنام . حرائق مشتعلة خلفتها قاذافات اللهب المتساقطة من الطائرات الحربية ، ومن الدبابات ، انها جحيم ملتهب اقسى من جحيم دانتي ، يمتزج جحيم الماضي مع الحاضر وتختلط الصورة بالابيض والاسود مع الصورة الملونة . طوفان من الصور المتلاحقة ، جنود اميركيون على صهوة خيول ، و يعبرون أنهاراً في بلاد اجنبية، طائرات مقاتلة ، قنابل ذكية ، قادة عسكريون ، رعاة بقر يطلقون النار، الفيتكونغ، حمم بركانية، مشاهد من مجزرة، خنادق، دبابات، انفجارات، قبور جماعية في معسكرات اعتقال، فدائي فلسطيني يحمل بندقيته .
وفي توليفة للواحدة مع الاخرى، تبدو تلك الصور المتفرقة الجنائزية والرهيبة هوالجحيم . كل ذلك بالأسود والأبيض وبالألوان، صور صامتة ، أربع جمل وأربع مقطوعات موسيقية ، أمرأة تمسك بيدي جندي يحمل بندقية وهي تدعوا له : أغفر لنا ذنوبنا ، كما غفرنا لاؤلئك الذين أذنبوا بحقنا ” . مشردون ومتسولون هم نتاج تلك الحماقة والتي اسمها الحرب ، هذا الجزء من الفيلم هو عبارة عن تجميع مونتاجي لمقتطفات سينمائية وأفلام وثائقية وأشرطة إخبارية ، من خلال هذه العملية يريد غودار أن يؤكد حتمية الصراع طوال التاريخ والعنف المتأصل في الأجيال المتعاقبة إلى جانب إظهار مدى قدرة العنف أو الحروب على تغيير الإنسان . مملكة الجحيم مبنية كما يقول غودار على أساس الموسيقى التي استخدمها ، ويضيف غودار : “بدأت هذا الجزء بتوليف (مونتاج) ثلاث أو أربع مقطوعات موسيقية ، ثم أخذت أبحث عن صور تنسجم مع الأفكار التي أردت أن أعبّر عنها .
أولاً: كانت هناك دوماً معارك في كل مكان، حيث يقتل البشر بعضهم البعض .
ثانياً: تأتي صور الآلات في الحرب.
ثالثاً: صور الضحايا.
ورابعاً: صور سراييفو أثناء الحرب”.
يبدأ الفيلم بدقة مزعجة من مفتاح البيانوالغليظ ومع هذه الدقة والتي توحي بالتوتروالرهبة تصحبها لقطات سريعة لأغلب المعارك والحروب التي دارت عبر العصور، ولا يعنيه الفيلم أي معركة إنما يركز أكثر ما يركز على القتل والأشلاء المبعثرة هنا وهناك ، فهذه لقطة من الحرب العالمية الأولى، وأخرى من الحرب العالمية الثانية، وثالثة من مجازر اليهود بحق الابرياء في فلسطين المحتلة، وتلك من البوسنة والهرسك ، وهذه الصور للهنود الحمر المطرودين من ديارهم كما هم الفلسطنين الذين اغتصبت أرضهم . الجزء الأول “الجحيم” هو مجرد فيلم قصير قائم بذاته ، إنه صادم ، ويبدو أنه لا ينتهي فالسرد يتناسب بالفعل مع الصور المعروضة على الشاشة وكل هذه الصور للحضارة التي تتلاشى من خلال الحروب والكوارث الأخرى، والآلات والتكنولوجيا المستخدمة لكل هذا الموت والرعب . في القسم الثاني وهو الاطول زمنيا والذي اعطاه المخرج عنوانا ( المطهّر) وفي هذا الجزء يصل جان لوك غودار إلى سراييفو لإلقاء محاضرة حول “النص والصورة” ويلتقي راموس جارسيا (روني كرامر) ، وهو مترجم فرنسي يهودي الأصل، عاش في فلسطين ودخل الجيش الإسرائيلي، لكنه كره كل شيء في أسرائيل ، وعاد ليعيش حياته في فرنسا ، وفي الوقت ذاته يتطلَّع غارسيا إلى رؤية ابنة أخته “أولغا برودسكي” التي عهدت أخته بها إليه ليرعاها ، وهي يهودية من أصل روسي تجيد الفرنسية ، وكذالك الروائي الأسباني “خوان جويتيسولو” الذي يركب سيارة وتنضم إليه الصحفية الإسرائيلية جوديث ليرنر (سارة أدلر )، يركب غودار سيارة أخرى مع ضيف آخر . يسأل أحدهم غودار لماذا الثورات لم يبدأها بشر؟ فيرد : “هذا لأن البشر لا يبدأون الثورات”. “لقد بدأوا المكتبات ” ويضيف “والمقابر”.
يقول غويتيسولو وهو يقود سيارته عبر مواقع الحرب البوسنية “إن قتل رجل للدفاع عن فكرة لا يعد دفاعًا عن فكرة . بل هي جريمة قتل “. وتفتتح المملكة الثانية في مدينة سراييفو ما بعد الحرب، يتم التحقيق في النزوع البشري إلى الحروب المدمرة، والصراعات السياسية بين الشعوب ، وتأثيرات الحروب، في الماضي والحاضر، من جرائم النازية إلى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الراهن، عبر مناقشة جادة وعميقة في السياسة والتاريخ مع رجال الصحافة والأدب والأكاديميين ، في حين يحكي غودار عن مدينة سراييفو في الوقت الحاضر، بمناسبة دعوته للمشاركة في لقاء الكتاب الاوروبي المنعقد في المدينة ، وموضوع اللقاء يدور حول ” ضرورة الشعٌر “، ورداً على سؤال: لماذا قررت أن تصور فيلماً في سراييفو؟
أجاب جودار: “إنها قصة طويلة، شخصية وغير شخصية في آن ، أنا مع الحدود لكنني ضد ضباط الجمارك وبطبيعتي، أنا لست شجاعاً، لكنني أحب أن أرى أشياء معينة ، أشخاصاً مرضى وجرحى . ربما ورثت ذلك من أبي الطبيب. أحببت أن أذهب إلى هناك عندما انتهت الحرب، عندما فقد الآخرون الاهتمام ، هنا يبدأ المطهر . إنه مجاز للحياة، حاولت أن أذهب إلى سراييفو في فيلم آخر (موزارت إلى الأبد) لكنني لم أنجح في ذلك. تلقيت دعوة مرّة أو مرتين للمشاركة في لقاءات أدبية. في الواقع أنا لم أختر سراييفو ، هي التي اختارتني . وكما قال تولستوي: أنا لم أختر أنّا كارينينا، هي التي اختارتني، كان لدي شعور بأن سراييفو هي المكان الأمثل لتصوير الفيلم الذي أردت أن أصوره . سراييفو هي التوضيح الأمثل للمطهٌر”، والشئ المهم هو أن المخرج غودار يرى في سراييفو المكان الذي تبدو فيه المصالحة ممكنة على حد تعبير إحدى الشخصيات . في هذا الجزء نجد مزيجاً من الشخصيات الحقيقية والخيالية، كما نصغي إلى التاريخ وهو يحكي من خلال الشهادات الفردية والمقابلات والأحاديث والمحاضرات والحكايات. إننا نرصد سكان سراييفو التي شهدت اللقاءات الأدبية الأوروبية كجزء من تجديد المدينة، وهو الحدث الذي ينظمه سنوياً منذ العام 2000 مركز أندريه مالرو الثقافي في سراييفو والذي شارك فيه جودار في العام 2002 .
إننا نتابع السكان وهم يمارسون حياتهم اليومية، ويلتقون بعدد من الزوار، منهم الكاتب الإسباني” خوان جويتيسولو ” (الذي انتقد الاتحاد الأوروبي على فشله في التدخل لإيقاف الحرب البوسنية) ، والفيلسوف الفرنسي جان بول كورنيه ، وكذالك الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش ، والكاتب والنحات الفرنسي بيير بيرغونيو ، والمعماري الفرنسي جيل بيكو (وهو الذي أعاد بناء جسر موستار الشهير، المبني في القرن 16 بعد تدميره في 1993) ، طائرة يهبط منها المخرج مع حوار على شكل استغراب حول حضور المخرج غودار ( الذي يظهر بنفسه في الفيلم) للمشاركة في إجتماعات الكتاب ألاوروبي للكتاب بدلا من حضوره مهجرجانا سينمائياً !! . الذي حضر من أجل أن يلقي محاضرة عن مبدأ المونتاج وعن النص والصورة، وعن المفهوم العام للواقع والمخيلة، أمام جمهور من طلبة السينما . وفي هذا الجزء أيضاً نتابع رحلة جماعية إلى أنحاء سراييفو وإلى جسر موستار .
فينتهز غودار فرصة هذا التجمع ويدعو الشاعر الفلسطيني محمود درويش للظهور والتمثيل في الفيلم لكي يناقش من خلال حواره مع صحفية اسرائيلية حضرت لتغطية اللقاء، يناقش معها في اطار الحديث عن ” ضرورة الشعر”. بعد مشهد المطار يتنقل المخرج بكاميرته الى الفندق واللقاء بالشاعر العربي محمود درويش في مقابلة تجريها معه الصحفية الإسرائيلية جوديث ليرنر”سارة أدلر”ممثّلة لدور صحافيّة من تل أبيب. تنتقل كاميرا المخرج الى السفارة الفرنسية ، الكاتب (بيري بيرغونيوس) المشارك في مؤتمر الكتاب الاوروبي يلتقي صديقه السفير الفرنسي في سيرايفو، الذي جاء كي يقدم كتابه من – هوميروس الى فوكنر- ، وحين تخبر السكرتيرة للسفير: “ان الصحفيين الاسرائيلين لازالوا ينتظرونه؟”، يرد عليها السفير سيراك “لقد كانوا ينتظرون لثمانية ألالاف عام”، ويسال السفير صديقه الكاتب “هل يعرف الكتاب ما يتحدثون عنه؟”، يرد الكاتب: “لم يكن هوميروس يعرف شيئاُ عن المعارك، المجازر، الانتصارات، والمجد”. في بهو فندق “الهوليداي أن” في سيرايفو تنتظر الصحفية الاسرائيلية ليرنر نزول الشاعر العربي ( محمود درويش ) ـ ثم نرى درويش والصحفيّة ليرنر وهما جالسان، الإضاءة لا تشمله، نراه إمّا نصف معتمٍ أو معتماً تماماً ، اللقاء الذي تبدأه الصحفيّة بالسؤال: ” محمود درويش لقد كتبتَ ، أن أولئك الذين يكتبون رواياتهم الخاصة ، يرثون الارض من هذه الكلمات ، وعندما تقول ، لم يعد مكان هنالك لهوميروس، بأنّك تحاول أن تصبح شاعر طروادة، وأنك تحب المقهورين !، الشاعر محمود درويش يجيب على السؤال: “آمل ذلك ، فهذا أمر حسن، حسن الصيت في هذه الأيام ، لكن الحقيقة لها وجهان ، لقد استمعنا إلى الرواية الإغريفية وسمعنا أحيانا صوت الضحية الطروادية على لسان يوروبيدس، أما أنا فأبحث عن شاعر طروادة، لأن طروادة لم تروا حكايتها، وأتساءل هل الشعب أو البلد الذي له شعراء كبار يملك الحق في السيطرة على شعب آخر لا شعراء له؟، وهل غياب الشعر عند شعب يشكل سبباً كافياً لهزيمته؟، هل الشعر إيماء أم هو أحد أدوات السلطة؟، وهل بإمكان شعب أن يكون قوياً دون أن يكتب شعراً؟.
أنا ابن شعب غير معترف به بما فيه الكفاية حتى الآن، أريد أن أتكلم باسم الغائب باسم شاعر طروادة فإن الوحي الشعري والمشاعرالإنسانية قد تظهر أكبر في الهزيمة مما هي في النصر، في الخسارة أيضاً شاعرية عميقة وقد تكون هناك شاعرية أعمق في الخسارة، ولو كنت أنتمي إلى معسكر المنتصرين لشاركت في تظاهرات التضامن مع الضحايا .
هل تعلمين لماذا نحن الفلسطينيين مشهورون؟، لأنكم أنتم أعداؤنا. إن الاهتمام بنا نابع من الاهتمام بالمسألة اليهودية ، نعم الاهتمام بك وليس بي أنا ، إذن نحن قليلوا الحظ في أن تكون إسرائيل هي عدوّنا ، لأنها تحظى بمؤيدين لا حدّ لهم في العالم، ونحن أيضاً محظوظون بأن تكون إسرائيل عدوّنا لأن اليهود هم مركز اهتمام العالم لذلك ألحقتم بنا الهزيمة وأعطيتمونا الشهرة . لقد ألحقتم بنا الهزيمة ولكن منحتمونا الشهرة” ، تعلق الصحفية : لقد عملنا كآلة دعاية من أجلكم !”، يرد الشاعر الفلسطيني محمود درويش قائلاً :” نعم أنتم وزارة دعايتنا، لأن العالم يهتم بكم أكثر مما يهتم بنا وليست لدي أية أوهام حول هذا الأمر ، ثم تسأله عن قوله (إن هزمونا في الشعر فهي النهاية !)، ويرد الشاعر درويش: لا أعتقد بأن هناك نهاية لشعب أو لشعر، لا بد أن خطأ ما قد وقع في هذا الاقتباس “. ولكن هناك معنى آخر، هو أنه لا الضحية ولا الهزيمة تُقاس بعبارات عسكرية . ينتهي اللقاء و تبتعد الكاميرا، يخرج درويش من إطارها ونسمع صوته : “أحمل اللغة المطيعة كالسحابة، إن شعبا بلا شعر هو شعب مهزوم “. الحوار بينهما يثير إشكالية يتعذر حلها، ومن جهة أخرى يثير أسئلة مهمة حول الترجمة . الصحفية الإسرائيلية تتحدث العبرية ، ودرويش يجيب بالعربية.
يقول المخرج غودار: درويش يفهمها لأنه يتحدث العربية ويفهم العبرية ، لكنها لا تفهم، لأنها لا تتحدث العربية”. سأل أحدهم جودار عن سبب عدم بدء الثورات من قبل بشر. يجيب: “هذا لأن البشر لا يبدأون الثورات ، بل يبدأون المكتبات”. واحدة من أفضل المشاهدة تلك التي تحدث في مكتبة سراييفو العامة المدمرة ، وهي عبارة عن ركام وخراب ومدمرة حقًا ، حيث تحترق براميل النار في زوايا غرفة فارغة كبيرة حيث يقوم الناس بفرز أكوام الكتب ، في محاولة لفهرستها ورجل جالس على كرسي و أمامه منضدة وامام أكوام الكتب وسط الخراب ويدون الكتب ويجردها . الشابة أولغا تنظر الى الجسر والى الدمار والخراب الذي حل بمدينة سيرايفو بعد الحرب الطاحنة “اللعنة على كل هذا ، حالة بؤسنا دقيقة ، الساحة مليئة بالاسلاك الشائكة ، والسماء تشع حمراء بالانفجارات، منذ أن حلُ هذا الخراب لم تنجو الثقافة نفسها ، ونحتاج لشجاعة كي ننقذها !”.
في بداية المحاضرة للمخرج غودار، يستل المخرج الفرنسي – السويسري الجنسية من محفظته صورتين وبعد أن يكشفها للحاضرين ، يسأل غودار طلبته الحضور:” اين تم التقاط تلك الصور بإعتقادكم؟ ، يرد بعض الحاضرون ، وارشو – ستابينغراد – بيروت – سيرايفو ، هيروشيما ، يرد المخرج: “لا ، في ريتشموند في الولايات المتحدة الامريكية وخلال الحرب الاهلية الامريكية في عام 1865 ، الشمال ضد الجنوب ، نعم ، الصورة هي السعادة ، ولكنها تجلب الفراغ مباشرة ، وفقط كل ما هو قوي يستطيع أن يعبرعن ذاته من خلال الصورة ، يقولون أن اللغة تقتطع المواضيع من الواقع أعتباطيًاً ، حاول أن ترى شيئاً، حاول أن تتخيل شيئأً، في الحالة ألاولى نقول :” أنظر “، وفي الحالة ألاخرى نقول: “أغلق عينيك”، اللقطة واللقطة العكسية مصطلحات غنية عن التعريف في عالم صناعة الافلام ، على سبيل المثال صورتين حديثتين ، تمثل نفس اللحظة التاريخية، أنظر الى هذا، الحقيقة لها وجهين، أذا ردت رأي، هذا يحدث، لان الكتب يكتبها رواة خالصون ، بلزاك في روياته تحدث عن النقوش في الكتب العظيمة، الوصايا، الكتب المقدسة، وأهل الكتاب، يهودي، مسلم، على سبيل المثال: في عام 1948 الأىسرائيليين دخلوا البحر تجاه الارض الموعودة ، الفلسطينين دخلوا البحر ليغرقوا، لقطة وعكسها ويكرر الحركة غودار مع تغير الصورتين، الشعب اليهودي أصبح قصة ، والشعب الفلسطيني أصبح وثائقي”. ويقدم صورة أفراد ينزلون من قوارب في البحر، وآخرين يدخلون بأقدامهم ودوابهم وأطفالهم إلى البحر. يشرح المخرج غودار الصورة الأولى بأنها تمثل اليهود عندما وصلوا إلى سواحل فلسطين، صورتهم تمثل شعبا يصنع لنفسه قصة تُروى، أما الصورة الأخرى، فتمثل الفلسطينيين وهم يهربون إلى البحر من العنف والمذابح ليموتوا على شواطئه وفي مياهه. الصورة الأولى تمثل قصة، بينما الثانية وثيقة على معاناة شعب”.
يلخص لنا غودار في الفيلم قضية فلسطين بضربة ذكية في صورتين، اذ يرينا اليهود في صورة وهم يعبرون البحر الي الشاطيئ الفلسطيني، الا ان هذه الصورة وحدها هكذا في المطلق لاتقول شيئا، لابد من الصورة ونقيضها ، ثم يرينا غودار، صورة اخري للفلسطينيين وهم يخوضون في مياه ذات البحر هربا من بطش اليهود ويغرقون فيه . بعد نهاية المؤتمر يعود غودار إلى بيته، وبينما هو يسقي زهور حديقته، يتصل به غارسيا ليخبره أن فتاة دخلت إلى دار سينما في إسرائيل وادعت أنها تحمل في حقيبتها قنبلة، وقد سألت الحاضرين إذا كان أيّ منهم على استعداد للموت معها في سبيل السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين . لم يستجب لها أحد وانسحب الحاضرون من المكان وَجلين، وهُرعت الشرطة وأطلقت النار عليها، وعندما فتح خبراء المفرقعات الحقيبة لم يجدوا سوى مجموعة من الكتب ، تلك الفتاة هي إنها ابنة أخته :أولغا “والتي كانت حاضرة في محاضرته في سيرايفو.
في المملكة الثالثة ” الجنة”، وهي الأشبه بحلم ، الطالبة الفرنسية الروسية الاصل أولغا اليائسة، التي لقيت حتفها على أيدي الجنود الاسرائيلين في صالة السينما ، تتجول عبر حديقة عدن وعلى ضفاف بحيرة جميلة ، حيث الكاميرا تتحرك بخفّة ، والإضاءة الطبيعية منتشرة، والمياه تتدفق، وأوراق الشجر تلتمع تحت أشعة الشمس، والشباب يقرأون الكتب ويلعبون. ثمة هدوء وسكون، حالة سلام وطمأنينة.. لكن غودار لا يجعلنا نستمتع بالمشهد طويلاً ، إذ سرعان ما يُظهر لنا المكان وهو مطوق بسياج، وتحرسه قوات المارينز الأمريكية.. لنجد أنفسنا أمام مسحة سيريالية صارخة ، اجل امريكا ” شرطي” العالم سوف تكون ايضا هناك ، في “الجنة” ويحرسها جنودها المارينز ، واذا كان لابد من شرطي لحراسة شوارعها، فسوف يكون بالقطع امريكيا.
فيلم : موسيقانا أعتبره مثاليّ لإظهار قدرة غودارعلى إعادة خلط المفاهيم واستكشاف أساليب جديدة لصناعة الأفلام ، ثم إن حياة غودار المهنية البالغة الثراء على امتداد ستين عاما ليست جديدة بالنسبة لفلسطين ومواقفة الكبيرة في مساندتها من خلال ألوعي وانسانيته وفكره اليساري وفي فترة مبكرة من حياته ، على هدي الماركسية اللينينية. في عام 1970 زار المخرج غودار الاردن وأقام فيه شهوراً في سبيل إنجاز فيلما عن فلسطين ، لكنه سرعان ما وجد نفسه عاجزاً عن ذلك ، كان عنوان الفيلم (ثورة حتى النصر) اقتباساً من الشعار الثوري الفلسطيني الذي كان رائجاً في ذالك الوقت، وفي الأردن صوّر غودار الكثير من المشاهد ، ودوّن الكثير من الملاحظات والتقى كثراً من الناس، لكنه لم يستكمل الفيلم ولم يعرض في الصالات . في حواره مع مايكل ويت، نشر في مجلة( مشهد وصوت )، عدد يونيو 2005 ، تحدث المخرج القدير غودار عن فيلمه “موسيقانا”، قال : “السيناريو مبني على تجربتي الخاصة أثناء مشاركتي في اللقاءات الأدبية الأوروبية.
كان بالإمكان توثيق الفعالية في ذلك الحين باستخدام كاميرا فيديو لتصوير الأفراد المشاركين ، إلى جانب تصوير محاضرتي أمام جمع من الطلبة والذي أعدت خلقه في الفيلم ، لكن دون أن يخامرني شعور بأنه سيكون مماثلاً تماماً لما حدث في الواقع . الأفراد الذين صوروا الفيلم شعروا بأن هناك شيئاً ما بشأن سراييفو والذي مسّني بعمق . إنه ليس مجرد فيلم حققناه عن منطقة الحرب كما فعل مايكل وينتربوتوم في فيلمه (أهلاً بكم في سراييفو)، على سبيل المثال، حيث بدا أنه لم يشاهد شيئاً في سراييفو، أو أن كل ما رآه، كان يعرفه سلفاً”. ويتابع المخرج حديثه: “عندما ذهبنا إلى سراييفو وجدنا خطوط الترام كما لو تجعلنا نسمع نوعاً معيناً من الموسيقى، لذلك أطلقت عليه (موسيقانا): موسيقاهم، موسيقانا، موسيقى كل شخص. هي التي تجعلنا نحيا، أو تجعلنا نأمل. بوسع المرء أن يقول (فلسفتنا) أو (حياتنا)، لكن (موسيقانا) ألطف ولها تأثير مختلف . ثم هناك أيضاً مسألة أي مظهر من موسيقانا تم تدميره في سراييفو؟، وما الذي تبقى من موسيقانا التي كانت هناك؟، فيلمي يتسم بالخفة والمرح قياساً إلى أفلامي الأخرى. أولئك الذين اعتبروه تشاؤمياً هم مخطئون ، على العكس، هو بالأحرى بهيج وتفاؤلي لكننا عشنا لمدة سنة على تلك التفاؤلية ، وهي الآن مستنفده “، ورداً على هذا السؤال : هل الأفراد الذين يظهرون في فيلمك “موسيقانا” حقيقيون، يؤدون شخصياتهم الحقيقية ، أم شخصيات خيالية؟ ـ يجيب غودار: “أنا لا أحاول أن أخلق اختلافاً بين الممثلين وممثلي الجانب الوثائقي . هم أنفسهم ، لكنهم يقرأون كلمات مكتوبة في النص . مع ذلك ينبغي أن يكون هناك شيء نابع من حياتهم الخاصة أيضاً . هم ليسوا ممثلين، هم أشخاص تم اختيارهم للمشاركة”.
فيلم “موسيقانا” للمخرج والمفكر السينمائي الكبير جان لوك غودار عرض خارج المسابقة الرسمية في مهرجان “كان” السينمائي الدولي 57 بمناسبة “تكريم” مخرجه.
فيلم “نوتر ميوزك” فيلم تم تحريره ببراعة من خلال قوة الصور والأفكار الموجزة . رفض مخرجه عبقري السينما الفرنسية، القاطع للحروب وويلاتها، وكل ما يمكن أن ينتج عنه قتل ودمار وخراب. فيلم “نوتر ميوزيك” للمخرج جان لوك غودار تأملًا أبديًا في الحرب كما يُرى من خلال محاضرته للطلبة السينما . في الختام ، هذاالفيلم رائع حقا ، في الحقيقة إنه ليس مجرد فيلم ، إنه قصيدة شعر وفي زمن كهذا عندما تهيمن الأفلام السريعة ، بلا فكرة ولا قيمة والمليئة بالحركة ، إنه درسا سينمائيا بليغا ، في تحليل وتشريح عالمنا المعاصر، بأزماته ومشكلاته وتناقضاته وحروبه ، غودار هنا يدعو إلى الحب والانفتاح والحوار والتفاهم والإبداع لكي تتجنب البشرية الطريق المؤدي إلى االحروب والدمار .
كاتب عراقي مقيم في لندن
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 02:33 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-74026.htm