صنعاء نيوز/ بقلم: عمر دغوغي الإدريسي -
لكن عندما تصل المركزية إلى أوجها فإن حركة عكسية تبدأ وتُبَاشر حيث
أنها تنحو بالضرورة إلى اللامركزية وذلك تحت وطأة وضغط عاملين اثنين من
جهة هنالك المطالب المحلية لاسيما تلك المتعلقة بالخدمات وتنمية المناطق ومن
جهة أخرى عندما تشعر الدولة انه يستحيل عليها الاستمرار في تسيير وتدبير كل
دقائق وتفاصيل الحياة الاجتماعية هذا يدفع الدولة لأن تأخذ بعين الاعتبار
الخصوصيات المتواجدة بالضرورة داخل الأمة والمجتمع.
آنذاك يبدأ العمل في وضع هياكل
أو إصلاح هياكل إدارية كانت موجودة من قبل حيث أن الدولة تتنازل تدريجيا
مع الاحتفاظ بحق المراقبة أو moyens عن بعض من اختصاصاتها وإمكانياتها
الوصاية حسب الجرعة التي تختارها الدولة لمشروع لامركزيتها وذلك لتأمين
مشروعية استخدامها.
من هنا يمكن فهم الأحزاب السياسية التي تريد غزو الرأي العام عندما تقوم
بإقرار اللامركزية في برامجها الانتخابية والتي تلتزم بتطبيقها في حال نجاحها. لكن
الملاحظ هو أنه بعد وصولها لسدة الحكم تتلكأ في تنفيذ ما وعدت به أو تقوم
بعملية كبح جماح اللامركزية عن طريق تقوية اختصاصات السلطات اللام مركزة
كما هو الشأن بفرنسا بعد نجاح اليسار في 1980 autorités déconcentrées
حيث قام بإصلاح جذري موسع للامركزية بواسطة قوانين 2 مارس 1982 المتعلق
بحقوق وحريات الجماعات الترابية وكذا قانون 7 يناير 1983 المتعلق بتوزيع
ألاختصاصات، لكن سرعان ما بدأت التشريعات الموازية تحد من فعالية هذه
389 الصادر في 10 مايو 1982 الذي وسع - الحركة لاسيما ابتداء من مرسوم رقم 604 الصادر - أو المرسوم رقم 92 préfets اختصاصات محافظي الأقاليم والولايات.
وعليه فمن هذا المنطلق تبدأ وتنجز بمشقة عملية لامركزية اختصاصات
الدولة. التي تكون جد ممركزة
لماذا ؟ لأنه من جهة هنالك ضرورة الوحدة وتقابلها المركزية وهنالك مطالب
التعددية وتقابلها اللامركزية وهنالك مطالب متعلقة بالهوية وتقابلها الفيدرالية
لأن القضية في جوهرها هي قضية سياسية أكثر منها إدارية فالنقطة المهمة
والأساسية تتجلى في إمكانية كون الباحث أو السياسي هل هو مستعد أو غير
مستعد من الناحية المعرفية أو الإبستيمولوجية لربط موضوعه الجزئي بحقل
العلاقات الاجتماعية أو الحقل الاجتماعي العام بالنسبة لكل ما من شأنه أن ينتج
من نتائج تمس الدولة والجماعة الترابية في آن واحد. أي أن عليه أن يأخذ بعين
الاعتبار مجموع العلاقات التي تنسج في مجتمع ما والتي تؤثر بصفة قطعية في
موضوع البث في اللامركزية قبل اتخاذ القرار كسياسي وقبل إصدار الأحكام المسبقة
كباحث، الأمر يتعلق أولا وقبل كل شئ بالحيز والحجم الإداري والسوسيولوجي
والسياسي للامركزية وبالتالي التغيرات والتحولات التي يمكنها أن تطرأ على الدولة
نتيجة هذا التقسيم الترابي. فالصراع بين المركز والمحيط هو صراع مواقع بدون
هوادة ولا نهاية بين بيروقراطيين وأعيان محليين.
للتطور الإداري فإنها تتغير وبصيغة schéma إلا أن هذه الرسمة الإجمالية
عريضة في أشكالها ومراتبها حسب التقاليد، حسب الإطار الاجتماعي، حسب
الموارد، حسب درجة الوعي والتعلم ثم التاريخ، لكل بلد على حدة. كل هذه
المعطيات تفسر وتوضح كيفية معالجة اللامركزية لكل دولة وكذا تحديد جرعة
هامش حرية تحرك الجماعات الترابية. والجرعة تعني مقدار هامش dosage
الحرية والاستقلالية المسموح به للجماعة الترابية فكلما كان الهامش كبيرا كلما
كانت الجرعات فعالة نحو لامركزية واسعة.
فبريطانيا مثلا تعتبر رائدة في مجال الإدارة المحلية المعاصرة المعروفة بالتدبير أو
ويحكمها قانونان لتمثيل الشعب في ،(self gouvernement) الحكم الذاتي
هاته الإدارة أولها سنة 1966 يدعى قانون تمثيل الشعب، والثاني قانون 1972
وهو قانون الحكم المحلي، أما فرنسا فتتميز بحكم مركزي قوي حيث أن آثار
أثرت وبشكل كبير في التسلسل التاريخي للامركزية les jacobains الجاكوبيين
إلا أنها عرفت قفزة نوعية منذ 1982، أما المغرب فعلى الرغم من الطابع المركزي
لما يطلق عليه باسم المخزن فإن آثار الماضي التليد لا زالت راسخة في الأذهان وفي
الذاكرة الجماعية لاسيما فيما يخص الجماعة والتي لها مفهوم خاص حيث أنها
ترمز إلى تدبير وحل مشاكل الجماعة على مستوى محلي بمعزل عن السلطة، سواء
تعلق الأمر بحل المشاكل الاجتماعية أو الاقتصادية كالتويزة مثلا أو توزيع المياه
بين الفلاحين. ولعل ما يسمى ببلاد المخزن وبلاد السيبة يبين إلى أي حد بأنه كانت
هناك مناطق تسير نفسها بنفسها.
على كل حال، الواقع المعاش نستنبط منه أن كل مجتمع وكل أمة لا يمكن
لها أن تعيش إلى ما لا نهاية في إطار مركزية أو لامركزية مطلقة حيث أن صيرورة
الأحداث أي انتقال الشيء من حالة إلى أخرى، تبين بأن الهدف هو الوصول إلى
الإصلاحات، processus توازن بين هذين المفهومين. كما نشير كذلك إلى أن سيرورة
أي سلسلة من الإجراءات أو العمليات التي تتميز بتغيرات تدريجية، تبين أولا
أن هذه العملية تتشابه تقريبا في كل أنحاء العالم ولكن تتغير من حيث المبتغى
والمقصود من ورائها.
فاللامركزية في الإتحاد الأوروبي لها أهداف ومقاصد مختلفة فإذا ما استثنينا
ألمانيا والنمسا وبلجيكا بحكم أنها دول فيدرالية فإن الدول الأخرى تعرف
مستويات مختلفات في معالجة اللامركزية لاسيما ما يتعلق بتحويل الاختصاصات
فمن جهة نجد إيطاليا وإسبانيا تنهجان سياسة جهوية جد متقدمة قد نقول بأنها
تصل إلى درجة الفيدرالية في حين أن فرنسا وبولونيا تنهجان سياسة تنحو إلى فرض.
تقييدا إدارية واقتصادية بينما بريطانيا تمزج بين النهجين حيث أنها منحت
الجماعات الترابية مسؤوليات سياسية وتقريرية تقترب إلى حد ما إلى الاختصاصات
التي تقوم بها الدولة أو في الأخير النموذج المركزي الذي régaliens السيادية
تعرفه مالطا أو لوكسمبورغ والذي يبرره البعض بأنه يعود للحجم الصغير لهذه
الدول وكذا تجانس التركيبة السكانية الموحدة.
إلى جانب المثال الأوروبي نجد التجربة الأمريكية لها أهداف أخرى
. فعملية
اللامركزية التي قام بها الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان هدفها كان إضعاف
الولايات التي هي عضو في الفيدرالية الأمريكية والحد من سلطاتها وإعطاء
اختصاصاتها إلى الجماعات الترابية.... يتبع
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.
[email protected] https://www.facebook.com/dghoughi.idrissi.officiel/