صنعاء نيوز - مخطئ أي نظام عربي ما زال يحسب أنه بمنأى عن رياح التغيير الشاملة التي لا تعرف أنصاف الحلول، ولا ترتضي بعد هبوبها سوى أن تجتث النظام من جذوره وتوصد أبوابها دون مطالب الإصلاح الجزئية التي يحاول النظام عادة طرحها وهو يلفظ آخر أنفاسه.

الأحد, 20-مارس-2011
صنعاء نيوز -

ما بعد الثورة وما قبل الاستقرار



مخطئ أي نظام عربي ما زال يحسب أنه بمنأى عن رياح التغيير الشاملة التي لا تعرف أنصاف الحلول، ولا ترتضي بعد هبوبها سوى أن تجتث النظام من جذوره وتوصد أبوابها دون مطالب الإصلاح الجزئية التي يحاول النظام عادة طرحها وهو يلفظ آخر أنفاسه.

تطورات الثورتين التونسية والمصرية تدعمان بشدة حقيقة أن نار هذه الثورات لا تطفئها مياه التغيير الشكلية أو تلك التي تحاول مخادعة الجمهور بتغيير رأس النظام والإبقاء على عناوين ومفاصل حكمه، ولعل الدرس الأبلغ هو ذاك القادم من مصر في آخر تجلياته المتمثلة بتفكيك جهاز أمن الدولة والإطاحة برموز العهد البائد من الحكومة الجديدة، وفي تونس لا يختلف الأمر كثيرا بعد اضطرار محمد الغنوشي للاستقالة نزولاً عند ضغط الشارع.

الثورة الليبية التي تعيش مخاضاً عسيرا هذه الأيام لا يتوقع إلا أن تتمخض عن زوال حكم القذافي وانتهائه دموياً على الأغلب، وبسقوط الدكتاتورية الليبية سيكون الطريق أمام سائر الشعوب العربية أيسر وأوضح في حال توفر الإرادة واليقين بالنصر والنفس الطويل، لأن بقية الشعوب ستكون أمام مدرسة من التجارب المتوزعة ما بين التغيير الذي يغلب عليه الطابع الجماهيري السلمي وذاك الذي لا مناص معه من المواجهة المسلحة كما هو الحال في ليبيا.

وهو تنوّع يشي بأن استعداد الشعوب الحرة لدفع ضريبة كرامتها وتحررها من الظلم والاستبداد هو أعلى مما يتوقع أحد، وأن عجلة التغيير ماضية حتى النهاية رغم وعورة الطريق وعدم تبيّن آخرها، بل وأن التخويف من نتائج الثورات لم يعد سياسة ناجعة أو قابلة للاستخدام من قبل أي نظام لم تصله رياح التغيير بعد، فثورة تونس ظلت ماضية رغم كثافة القمع في بدايتها مترافقاً مع موجة الضخ الإعلامي الرسمي المضاد المثبط للعزائم والمخوف من مآلاتها الاقتصادية والاجتماعية على واقع الناس، وكذا الحال مع مصر التي ما زالت ثورتها تحصد الإنجازات المذهلة وبسرعة قياسية، وهو ما سيكون مع ليبيا التي لم تفلح هواجس التدخل الأمريكي أو التخويف بمصير مشابه للعراق بتحويلها عن قبلتها.

بل إن المعبّرين عن ثورتها اليوم يمتلكون قدراً من الوعي وأصالة المنطلقات والأهداف لم يمتلكه كثير من السياسيين والرسميين الذين كانت خيارات تفكيرهم محصورة ما بين الإبقاء على النظم المستبدة أو إزالتها بمعاول أمريكية.

المشهد العربي الثائر اليوم مختلف وفريد وخارق للتوقعات لدرجة أنه تجاوز الجدليات التاريخية المعروفة، ولم يعد قابلاً لإسقاط تجارب سابقة عليه، بل إنه سيؤسس لنظريات جديدة على الأرجح في علوم السياسة والتاريخ والاجتماع، وسيكون ما قبل الثورة العربية من نظريات وفرضيات واستراتيجيات غير صالح لما بعدها، وما من شك بأن دوائر صنع القرار العالمية اليوم ستعيد تشكيل استراتيجياتها المختلفة وخططها طويلة الأمد، بل قد تغدو (الخطط طويلة الأمد) غير مجدية بعد اليوم ولا قادرة على مواكبة التطور الميداني أو رسم سيناريوهاته، أو مجاراة عصر السرعة التي ثبت أنها لا تتعلق فقط بالتقنيات والنظم التكنولوجية.

بل بأي حراك بشري طبيعي كذلك لا يلبث أن ينطلق حتى يحقق مراده أو يزيح العقبة الأكبر من طريقه، والعقبة الأكبر في الحالة العربية لم تكن هي الأنظمة بقدر ما كانت حاجز الخوف والعجز الذي ظل لعقود مهيمناً على نفسيات الشعوب، وإذا به يزول مرة واحدة وبسرعة مفاجئة.

ما بعد الثورة وما قبل الاستقرار هي مرحلة حرجة بكل تأكيد، ومن المهم عبور هذه المرحلة بقدر من الحذر والشجاعة في آن واحد، فلا العبور العشوائي ولا مراوحة المكان ستخدمان أية ثورة وتشجعان على الاقتداء بها، لكن العبور الواثق المستند إلى الجماهير والمعبر عن إرادتها هو الذي سيختصر مراحل من الجهد والزمن، وسينفي التردد من قاموس المنتظرين مشاهدة المآلات قبل أن يدلوا بدلوهم أو يقدموا على التغيير.

مرحلة ما بعد الثورة وما قبل الاستقرار ينبغي ألا تطول أكثر مما يجب، وألا تكون عامل تيئيس لمنتظري عهد التغيير، وألا تنصرف إلى الشكليات وتتحول عن الجوهر، كما ينبغي أن تُحيّد معها الحسابات الخاصة لأي فرد أو جهة لأجل الصالح العام، وهو ما سيتكفل باجتياز هذه المرحلة بسلاسة واطمئنان.

وعلى كل حال فواضح أن مسارات الثورة العربية واضحة بما فيه الكفاية لسالكيها، وهي كما يبدو مبصرة لأهدافها أكثر مما يظن المراقبون والمتابعون عن بعد، كما أنها على الأرجح عصية على الفشل وغير قابلة للتوقف في منتصف الطريق، ليس فقط لأن ما نراه اليوم هو تغيير شامل رغم صعوبته واستحالة التنبؤ به سابقا، بل لأن المراحل التاريخية الفاصلة التي تصنعها الثورات لا يمكن أن تكون عرجاء أو متباطئة أو مترددة، والأهم من كل هذا أن العربي اليوم لم يعد ذاك العربي الذي أفقدته الأنظمة المستبدة كرامته وإحساسه، وأورثته الخوف من صوته ومشاعره، بل هو كما نراه ويدهشنا صنيعه: عربي مُقدم لا يرتعب مما وراء الأفق ولا يجبن عن القفز نحو الغد بثقة وجرأة وبعزيمة مفعمة باليقين، اليقين بصوابية مساره، وبقدرته على تحقيق الانتصار على غاصبي حقوقه وعلى جميع عوامل التخلف والانكفاء التقليدية البالية!
تمت طباعة الخبر في: الأحد, 22-ديسمبر-2024 الساعة: 02:48 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.sanaanews.net/news-7454.htm