صنعاءنيوز/بقلم: آصف قزموز -
عندما تحين لحظة الحقيقة ومواجهة النتائج والمسببات، ونحن نجتاز الاختبار العسير الذي طال بنا، ليحدد ويعلن على الملأ نجاح السلطة الوطنية الفلسطينية في تجاوز كل الصعاب والمعيقات المتعمدة التي وضعت في وجهها لمنع جاهزية الشعب الفلسطيني لقيام دولته الحرة المستقلة. لا يمكن تجاوز جملة من الحقائق التي مكنتنا من هذا النجاح في الجاهزية المهنية. لا سيما ونحن نتحدث عن الرئيس محمود عباس ابو مازن الذي لم يفقد البوصلة على امتداد التجربة وعرف دوما طريقه وموطئ قدمه في المسير نحو السِّلم والحلم، فاجتهد وقدم كل ما يتوجب من استحقاقات وضرورات النجاح التي مكنته من حشر الخصم في الزاوية الحرجة في اكثر من مرة، فعمل بمنتهى الوضوح والشفافية والصراحة مع شعبه والآخر، عبر ثنائية تكاملية مع رئيس الوزراء الدكتور سلام فياض المهندس بامتياز لهذا الإنجاز المشهود دولياً ومحلياً. ما يدفعنا اليوم إلى القول إن وجود الرئيس أبو مازن على رأس الهرم السياسي وتكامله عبر ثنائية ملحة مع الدكتور فياض هو الضمانة لإنجاح أي حل سياسي ووضع حدٍ للحكومات التي طالما بنت سياساتها وتطرفها على أخطائنا ومواقفنا المستدرجة وردود افعالنا غير المسحوبة.
نعم، نحن أنجزنا جُلّ واجباتنا المطلوبة وجاهزون للدولة، وبالتالي فإن انغلاق الأفق السياسي الحالي لا يقلل من شأن وأهمية ما أنجزه الشعب الفلسطيني، بل يزيده أهمية ففي خضم التحولات التحررية في المنطقة والمدعومة بقوة دفع دولية، ستتحول بالتأكيد النظرة إلى شعبنا من قبلهم، إلى أننا شعب يناضل من أجل الحرية التي يروجون لها في بلدان اخرى، وبالتالي يتحتم عليهم رضوا أم لم يرضوا، ان يدعموا نضالنا في سبيل الحرية، ولو من باب تأمين نجاح سياساتهم الهادفة لتحقيق مصالحهم الحيوية لدى دول أخرى بالمعنيين الاقتصادي والسياسي من جهة، ولأنه بات استحقاقاً على الأسرة الدولية لذلك من جهة أخرى. وهذا الأمر بالتأكيد ستكون له تجليات وترجمات قد تصل حدَّ فرض العقوبات على إسرائيل في حال تعنتها وعدم خضوعها للإرادة والمصالح الدولية الحاوية والحامية لمصالح اسرائيل، إلى جانب مصالح الفلسطينيين، لأن خلاف ذلك سيضعف من قدرة اسرائيل على الاستمرار بذات الفجاجة القائمة، وينال من قوتها وأوراقها المستخدمة في استقاء واستدراج الانحياز الدولي لها، وبالتالي ينال من قدرتها على القيام بدورها التاريخي في الشراكة مع مراكز النفوذ الدولية، أحد أسباب وجودها في المنطقة وهو ما لا تريده واشنطن وحلفاء اسرائيل الآخرون.
ولعل ما يؤكد حالة التزاوج السياسي ما بين الموقف الأميركي والموقف الاسرائيلي تجاه القضية الفلسطينية، ويشير بافتضاح إلى أن المواقف الأميركية والاسرائيلية، تقف دائماً على ذات المسافة من الفلسطينيين عداءً أو مراوغة، أن نتذكر مرحلة تبوُّؤ المبعوث الأميركي "دينيس روس"، الذي كان ينسى نفسه كوسيط في المواجهة السياسية مع الرئيس الشهيد ابو عمار، إلى حد تبني المواقف الاسرائيلية الأشد تطرفاً وتقديمها بلسان أميركي وسيط. لكن إذا نظرنا لهذا الزواج التاريخي ما بين الشريكين الاسرائيلي والاميركي بمنطق التبصر والتحليل الواقعي، سنصل إلى نتيجة تعيدنا إلى جذر السياسة الاميركية وكذلك الاسرائيلية، التي تجمعها وحدة المصالح والرؤى السياسية الحامية للأول، وصولاً إلى ما نشهده حالياً من تجليات التحالف، ما بين المحافظين الجدد في اميركا والمتطرفين اليمينيين في اسرائيل، كأحد أبرز العلامات الدالة على ذوبان سياسات الطرفين ببعضهما المصالحي. آخذين في اعتبار آخر اكثر برهاناً على مَتن وسالف هذا القول، وهو أن ما يحكم ويدير السياسات والمواقف ويرسمها هو المؤسسة وليس الفرد كما هو الحال في عالمنا العربي، إذ لا يتعدى دور الفرد داخل المؤسسة مساحة كونه المايسترو الذي يقود الجوقة التي تنفذ نصّ اللحن السياسي المرسوم لا أكثر. ولأجل هذا شهدنا تماهي الفواصل المميزة للسياسات الاسرائيلية في عهد الحكومات المتعاقبة عبر التاريخ، من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار وما بينهما، التي لا تحيد عن جوهر الموقف الصهيوني العقائدي التاريخي من الحقوق الفلسطينية التاريخية ومفهوم السلام عموماً.
لا أقول هذا الكلام من منطلق إحباطي سلبي للذات والآخرين. وإنما لأجل رسم المواقف، بوعي واقعي للحقائق، وليس على أسس عاطفية ومفاهيم تاريخية جامدة، لأن الإقرار والمعرفة بهذه الحقيقة، يفترض أن يدفعنا للتركيز أكثر، على مراكمة وتجميع النقاط الإيجابية في أدائنا، بما يساعد لإيجاد دفّة سلام مصالحية تجمعنا مع هؤلاء والاسرائيليين والاميركيين معاً، سيما وأن قيام الدولة الفلسطينية تحولت من حيث يريدون ولا يريدون، إلى مصلحة أميركية واسرائيلية ودولية، وليس فلسطينية وحسب، وهو الأمر الذي يقرب المسافات بين هذه المصالح ويعتمد بالدرجة الاولى على نمو وتطور الشراكة معهم، ناهيك أن واشنطن وحدها من دون مصالح، لن تقدر على إلزام اسرائيل بقبول الدولة الفلسطينية، التي لا بد وان تكون بالضرورة قائمة على أنها جزء ضروري لمصالحهم المشتركة معنا ومع العرب عموماً. ولعل في ما يجري اليوم من تحولات واهتزازات في عروش الأنظمة العربية التي تقادمت وفقدت لياقتها وصلاحيتها التاريخية والعملية، فرصة ثمينة قد لا تعوض إن لم نغتنمها والعرب في إعادة رسم ملامح وخريطة المصالح الدولية، لكي تأخذنا ومصالحنا بالاعتبار على أسس تعايشية تنموية لا إزاحية إحلالية. واعتقد أن القادم الجديد، وأن كان بحدود معينة تحت السيطرة والنفوذ الدولي، لا بد وان يشكل لنا مثل هذه الفرصة لننفذ من خلالها إلى فضاء الدولة الحرة المستقلة حرية واستقلال باقي النظم المحكومة شئنا أم أبينا بسقف مصالح الخارطة الدولية الجديدة للمنطقة والعالم. ومثلما ستتغير خارطة وملامح وضواغط واصطفافات مصالحنا ستتغير أيضاً خارطة وملامح وضواغط ومحددات مصالحهم التي تشكل الإطار الأوسع الحاوي لمصالحنا والحاوي والحامي لمصالح اسرائيل.
ولعلي لا أبالغ في التفاؤل، أو أتجاوز سقف التوقعات الممكن، إذا اعتبرت أن أنبوب الغاز المتدفق من مصر لتغذية اسرائيل بما يقارب نصف احتياجاتها، إضافة للممثليات والمكاتب التجارية الاسرائيلية بكل ما تعنيه من مصالح اسرائيلية وأشياء اخرى في العقر العربي، يمكن أن تشكل ورقة هامة بيد العرب في إطار معادلة المصالح العالمية لاستثمارها في خضم عملية دفع اسرائيل للتراجع عن تعنتها ورفضها لقيام دولة الفلسطينيين الممهورة والمشفوعة بالقرارات والشرعيات الدولية منذ زمن.
وفي ظل كل هذا الذي نشهد ونسمع واحتمالات استيلاد الاعتراف بدولتنا من رحم معادلة المصالح المشار اليها، اخذين بعين الاعتبار، تهديد نتنياهو الدائم خصوصاً بعد إعلان المصالحة الفلسطينية مع حماس وتشكيل حكومة وحدة وطنية أو تكنوقراط، مستذكرين بذات الوقت، الموقف الدولي الذي أوقف الدعم وقاطع السلطة الوطينة إبان وجود حماس في الحكومة، وكون حركة حماس ما زالت في نظر الغرب عموماً حركة ارهابية، فهل يمكن ان يظل موضوع الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية في نطاق استحقاقات ووعود أيلول والحالة والمحاذير هذه أمراً وارداً وممكناً؟ّ! وهل يمكن أصلاً للمصالحة الفجائية الفلسطينية هذه ان يكتب لها الحياة لتكون أساساً صالحاً ومهداً آمناً لميلاد الدولة؟
اعتقد ان هذه المصالحة غير الواضحة المعالم والعاجلة، قد باضت لنتنياهو في القفص وأمنت عذراً لأوباما. وبالتالي فإن اشخاصاً وجهات عدة ستفيد من هذه المصالحة على حسابنا، بدءاً من نتنياهو الذي سيجد له بها عذراً، ولأوباما الذي سيجد له بها مبرراً وغطاءً من حيث لا يحتسب يحفظ ماء الوجه أمام التعنت الاسرائيلي، وحماس التي ستشكل لها طوق نجاة امام تحولات جارية ومقبلة وانظمة حكم آفلة وآيلة للسقوط المحتوم، ناهيك عن التخوفات من ان تشكل هذه المصالحة تصالح على مصالح فصائلية ثنائية او جمعية من وعلى حساب الشعب الذي عادة ما يجري التحاصص في مصالحه، آخذين في الاعتبار ان أية مصالحة لا بد وان ترافقها اعراض جانبية قد نقدر او لا نقدر عليها.
فالمصالحة ليست هدفاً بحد ذاته، بقدر ما هي وسيلة ضرورية لوحدة وطنية وحماية حقوق شعب وقضية. باعتبار أن الشعب والوطن لا يمكن أن يكونا ملكاً لأحد ولا تركة الوالد لهذا الفصيل أو ذاك/ وهذا هو المسبار الحقيقي الذي يمكن أن يؤكد نجاح المصالحة من عدمه، وإلاّ سيكون لسان الحال "نجحت العملية ومات المريض". أعلم أنني لم أخترع الدولاب، ولكنني أعلم أيضاً أن المصالحة على اختلاف أاشكالها ومستوياتها تتم بحسابات دقيقة لمعطيات الحقل والبيدرْ لتحقق أولاً المصالح والأهداف المرجوّة للشعب قبل مصالح وأهداف أية فئة او فصيل كائناً من كان، لكن سواء خذلنا الرئيس أوباما أم وفا بوعوده، يبقى الرئيس محمود عباس أبو مازن الضمانة الأكيدة والأكثر شعبية وقدرة على الدخول في أية مصالحات سياسية داخلية كانت أم خارجية، ذلك لأنه السائر بجدارة لغور المسائل والمواقف المقابلة واختيار اللحظة التاريخية المتناسبة مع كل موقف بعداً واقتراباً.
[email protected]