صنعاء نيوز/ -
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.
[email protected] https://web.facebook.com/omar.dghoughi.idrissi
العولمة والاندماج الاجتماعي ليست العولمة تحديات ومخاطر بالنسبة للجميع وفي الأوقات والسياقات ولو كانت كذلك لما قامت ولا استمرت.
ففي مقابل هذه التحديات الكثيرة التي تمس جميع الدول الوطنية، تفتح العولمة أيضا نوافذ فرص عديدة، أمام الأفراد والجماعات والمجتمعات، خارج إطار الدولة الوطنية وبمعزل عنها. وليست هذه الفرص في الواقع إلا الوجه الآخر للتحديات والمشاكل المطروحة.
فالعولمة التي تضعف اللحمة والروح الوطنية في جميع بلدان العالم هي نفسها التي تفتح الباب أمام نشوء مجتمع مدني عالمي يحمل في صلبه بذور تنظيم جمعي يتجاوز الاختلافات الوطنية والإتنية ويشكل مصدرا عميقا لتضامنات إنسانية عبر الحدود لا تزال في مهدها لكن منذ الآن تلعب المنظمات الأهلية دورا كبيرا في ملء الفراغ الذي يخلقه انحسار الدولة الوطنية أو تراجعها عن التزاماتها التقليدية في العديد من البلدان والمناطق.
وتشارك منظمات المجتمع المدني العالمية بشكل فعال في مواجهة مشاكل الفقر والصحة وشح الموارد ومعالجة عواقب الكوارث الطبيعية، خاصة في البلاد الصغيرة المفتقرة للموارد والإمكانيات.
كما تساهم المنظمات والهيئات المدنية بصورة متزايدة في تنظيم قوى التضامن الإنساني عبر الحدود وتقديم الدعم للشعوب في مواجهة الاحتلال أو التمييز أو الديكتاتورية.
وهي تنحو أيضا، من خلال تنظيمها للرأي العام العالمي، إلى ممارسة تأثير متزايد على صانعي القرار الدولي والوطني أيضا، خاصة عندما يتعلق الأمر بشؤون مشتركة تتجاوز المصالح الوطنية، كالتنمية والتجارة والحرب.
ويكفي في هذا المجال الإشارة إلى المنظمات النسائية التي شكلت قوة ضغط دولية وإلى منظمات مثل أطباء بلا حدود أو منظمة العفو الدولية أو المنتدى الاجتماعي العالمي وفي الوقت الذي تهدد فيه العولمة الاقتصاد التقليدية الضعيفة بالتراجع والتفكك أمام قوانين المنافسة الدولية العنيفة، تقدم سياسات الشراكة فرصا جديدة أيضا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية بما تتيحه من تدفق الرساميل والاستثمارات عبر البلدان، خاصة تلك التي تتوفر فيها شروط أفضل لتقليل آلف الإنتاج أو للتوسع الرأسمالي واقتناص الفرص الجديدة. ويدفع الشعور المتزايد بالاشتراك في مصير واحد والتعرض لمخاطر واحدة عددا كبيرا من الدول الصناعية الكبرى إلى الاهتمام بالمناطق التي تعتقد أن لها مصلحة في استقرارها ونموها.
وقد ولد عن هذا الإدراك المتنامي لترابط المصالح الدولية وتفاعلها اتجاه قوي نحو بناء الكتل القارية، بما يعنيه ذلك من مساعدة الدول الفقيرة والضعيفة على تأهيل نفسها والاندراج في الوحدات الإقليمية آما حصل بالنسبة لبلدان أوروبة الوسطى والشرقية التي ضمنت التحاقها بالاتحاد الأوروبي.
ومنه أيضا نشأت مشاريع الشراكة الاقتصادية التي تقترحها العديد من الدول الصناعية الكبرى على البلدان الفقيرة لمواجهة مخاطر التهميش والإفقار والدمار الاقتصادي الذي يتهددها بسبب تقدم مسار العولمة وتفاقم المنافسة الاقتصادية العالمية ويرتبط بمشاريع الشراكة الاقتصادية فتح أسواق الدول الصناعية على منتجات الدول الفقيرة وتأهيل هذه الدول للمشاركة بشكل أفضل في التجارة الدولية والاستفادة منها ونقل الخبرة الفنية والتكنولوجية والتشجيع على انتقال الصناعات التي أصبحت قليلة المردود في الدول الصناعية نحو البلدان الأخرى وربما كان المثال الأبرز لنتائج العولمة الاقتصادية والتجارية ما حققته الصين الشعبية في ظل سياسة الانفتاح التي اتبعتها 57 منذ أآثر من عقدين من نمو اقتصادي مضطرد يزيد عن 9 بالمائة وقد تجاوز في المرحلة الأولى 20 بالمائة وفي هذا السياق نفسه ينبغي الإشارة إلى ما تقدمه ثورة الاتصالات والشبكة العنكبوتية من فرص استثنائية لردم الفجوة المعرفية بين المجتمعات، عن طريق تسهيل سبل اكتساب المعرفة وتعميم نتائج البحث العلمي وربط التقدم الاقتصادي بالإبداعات العلمية والفكرية، آما لم يحصل في أي حقبة سابقة. فبالرغم من أن سياسات العولمة الراهنة تركز بشكل كبير على العمليات الاقتصادية، وتدفع الاقتصاد إلى المقدمة بوصفه الحامل الرئيسي لهذه العولمة، والقاعدة التي يقوم عليها نظام جديد من العلاقات الدولية الذي يضمن إدراج المجتمعات جميعا، على قدر أو آخر، وبصورة أو أخرى، في الحضارة التقنية العلمية، إلا أن المحرك الأكبر للعولمة، أو رأسمالها الحقيقي، بما في ذلك على الصعيد الاقتصادي، لم يعد الرأسمال المادي ولكن الرأسمال اللامادي أساسا.
فالمعرفة وما يرافقها من طفرات تقنية سوف تشكل بصورة متزايدة ميدان التراكم الأهم في عملية التنمية البشرية.
والمشاركة في إنتاج المعرفة وتداولها وتطبيق نتائجها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، سيحدد ذلك آله بشكل أكبر قدرة المجتمعات على الاندماج في النظام العولمي الجديد وموقع آل منها فيه وبالمثل، إن العولمة التي تساهم في الانتشار السريع للأمراض المعدية هي نفسها التي تقدم وسائل مكافحة هذه الأوبئة وحماية البيئة والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل ومعاقبة الجريمة وتهريب المخدرات وتبييض الأموال.
والعولمة التي تعمل على تعميق التفاوت في توزيع الثروة والقوة هي نفسها التي تقدم فرص تحقيق الأمن الدولي الجماعي والدعم الفعال لحقوق الإنسان والتعددية السياسية والديمقراطية وبهذا المعنى ينطبق على العولمة ما ينطبق على جميع الطفرات التقنية التي تتوقف نتائجها على القوى التي تتعامل معها والأهداف التي تسنها لنفسها والاستراتيجيات التي تصوغها لتحقيقها ويبدو لي أن أول شرط للاستفادة من العولمة، بأي شكل كان ولأي هدف كان، هو وجود الفاعل الاجتماعي الذي يستطيع أن يميز بين معطياتها وآثارها المختلفة.
وعندما نتحدث عن فاعل اجتماعي فنحن نعني بالدرجة الأولى وجود قوة اجتماعية، سواء أكانت نخبة أو طبقة أو مجموعة مهنية أو مجموعة مصالح تملك مشروعا خاصا بها بما يفترضه وجود هذا المشروع 27 من وعي بالأهداف ومن مهام واضحة وإرادة مشتركة وغياب هذا الفاعل يعني أيضا غياب أجندته الخاصة وبالتالي التضحية بمصالحه وما يميز العولمة أنها بقدر ما تعمل على تفكيك الفاعلين الاجتماعيين التقليديين مثل الدولة القومية والطبقة والأمة، تترك الأفراد أو الأغلبية الساحقة منهم مشتتين خارج أي إطار يسمح لهم بممارسة دورهم الجماعي أو بالتحول إلى جزء من مشروع عمومي.
وهذا التفكيك هو الذي سمح للنخب الحاكمة بالتحرر من الالتزامات التقليدية وتحويل الدولة التي يسيطرون عليها إلى أداة لتحقيق أجندة خاصة تتناقض مع الأجندة الوطنية العامة أو تختلف اختلافا كبيرا عنها بقدر ما تتفق وأجندة السيطرة الخارجية النازعة إلى أن تكون سيطرة امبرطورية وهكذا ما كان من الممكن في غياب أجندة عربية، وطنية أو قومية إقليمية، أن يحصد العالم العربي من العولمة إلا ما يفيد شريحة صغيرة من المجتمع على هامش تحقيق أجندة القوة الأكثر حضورا وتأثيرا في المنطقة، أعني الولايات المتحدة الأمريكية.
وأجندة العولمة الأمريكية، في الشرق الأوسط وخارجه، تتكون من بنود واضحة ومعروفة. تأكيد القيادة الأمريكية للعالم، الحفاظ على التفوق الاستراتيجي الذي تتمتع به والحول دون صعود قوة قادرة على منافستها وتقليص حجم هذا التفوق وبناء سوق عالمية مفتوحة تتطابق مع المصالح الأمريكية ومع العقيدة الليبرالية المرتبطة بها، ومنع انتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل وأخيرا القضاء على الإرهاب الذي يمكن أن يطال أراضيها وفي سياقه على قوى المقاومة للهيمنة الامبرطورية الأمريكية ومن الطبيعي أن تدفع مثل هذه الأجندة إلى تحويل العالم العربي إلى ساحة رئيسية من ساحات الصراع على صياغة أجندة العولمة بين التكتلات والدول الكبرى، وأن يصبح التحكم به كموقع استراتيجي، والسيطرة على موارده البشرية والاقتصادية والنفطية، جزاء من الصراع المرتبط بعصر العولمة. فهو يلتقي مع هذه الأجندة في عدة نقاط.
أولا من حيث موقعه الجيوسياسي الاستراتيجي بوصفه ممرا يفصل بين الولايات المتحدة وأوروبة من جهة، وآسيا الصاعدة كقوة منافسة رئيسية، والصين على رأسها، من جهة أخرى.
وثانيا من حيث هو مصدر لأهم احتياطات طاقة ذات قيمة إستراتيجية كبرى في التنافس الدائر وفي تحقيق المنافسة في السوق الاقتصادية.
وثالثا من حيث هو بؤرة توتر دائمة ومستمرة بدأت تشكل تهديدا خطيرا للأمن الأمريكي والأطلسي عموما مع تنامي قوى وحركات التخريب الدولية ذات الأصول الشرق أوسطية العربية والإسلامية.
ورابعا من حيث هو مصدر لخطر تطوير الأسلحة النووية والكيمائية والبيولوجية، وهو لا يبعد سوى مسافات قصيرة عن البلدان الأطلسية.
وخامسا من حيث هو مجموعة من البلدان التي تفتقر إلى حياة سياسية واقتصادية مستقرة، وتعاني أنظمتها من أزمة مستديمة في الشرعية.
وقد ساهم الخروج الكارثة للبلدان العربية من الحقبة الوطنية وما نتج عنه من تفكك في العلاقات الاجتماعية وتقهقر في معايير الإدارة والحكم معا ومن شرخ متزايد بين النخب الحاكمة والمجتمعات، في خلق الاعتقاد بأن العالم العربي قد أصبح ثمرة ناضجة للقطاف، وأن من الممكن بسهولة ابتلاعه استراتيجيا واقتصاديا وحضاريا، وبالتالي تحقيق كسب استراتيجي كبير في المنافسة العالمية يمكن الولايات المتحدة من متابعة سياستها الامبرطورية ويقدم رافعة قوية لضمان التفوق المنشود في العقود القادمة على القوى الجديد الصاعدة وهكذا بدل أن تخرج البلاد العربية من الأزمة الوطنية نحو تكتل إقليمي يسمح لها بتجاوز الصعوبات الإستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها وسوف تواجهها بشكل أقوى مع تصاعد وثائر العولمة، وجدت نفسها في مواجهة مشروع إعادة الهيمنة الأجنبية بما تعنيه من محاولة جدية لتقليص هامش مبادرتها وفرض الوصاية السياسية عليها وإضفاء الشرعية على التدخل السافر في شؤونها الداخلية وقد أظهرت البلدان العربية، في مواجهتها لهذا المشروع الذي لا يزال قائما، صعوبة كبيرة في بلورة سياسات عقلانية، سواء أتعلق الأمر بالحكومات والنخب المسيطرة أم بالمجتمعات وما يمثلها من أحزاب ومنظمات مدنية. وتراوحت ردود أفعالها النظرية والعملية بين العودة إلى تقاليد المقاومة القديمة التي راكمتها خلال المرحلة السابقة للكفاح ضد الاستعمار التقليدي وبين الاستسلام للقدر والتكيف، في حدود ما أمكن، مع حاجات السيطرة الامبرطورية الأمريكية.
ولم تستطع بالتالي لا أن تبلور رؤية واضحة لمواجهة المخاطر والتحديات المتفاقمة، ولا من باب أولى أن تنجح في تنظيم رد عملي ايجابي من نوع التكتل أو التحالف الواعي والمنظم لضمان المبادرة والحفاظ على الحد الأدنى من السيادة وإنقاذ الكرامة الوطنية والقومية.
وبقي الرأي العام العربي مقسما وموزعا بين تيارات شتى تنفي آل واحدة منها الأخرى، تبدأ بالتسليم للإمبراطورية والاندماج فيها من دون مناقشة ولا شروط، وهو ما تظهره العديد من التيارات الليبرالية الخارجة من رحم النظم الاستبدادية التسلطية، وتنتهي بفرق السلفية الجهادية وغير الجهادية التي لا تقبل بأقل من القطيعة الكاملة بين المجتمعات الإسلامية والحضارة الحديثة الغربية، مرورا بكل ما يمكن تصوره من تيارات وسيطة محافظة أو إصلاحية آما بقيت النخب الحاكمة بعيدة عن أن تفكر برد جماعي على التحديات ذات الطبيعة الشمولية.
واختار معظمها المناقصة الوطنية والمزودة على الدول الأخرى من أجل الحصول على مزايا التفاهم الأسرع والأكمل مع الدول الأطلسية، بما يعنيه ذلك من القبول ببعض الإصلاحات الجزئية، بينما اختار قسم آخر منها الابتزاز بالقدرة على التخريب والمساومة على القيم الوطنية في سبيل ضمان وجوده في السلطة، من دون أي يضطر إلى القيام بالإصلاحات التي يطالب بها الأمريكيون أنفسهم لتبرير وصايتهم الإستراتيجية.
فما يجمع بين الإستراتيجيتين: إستراتيجية تصفية الإرث الوطني بأرخص ثمن والمزودة 28 بالقومية أو تحويل الوطنية إلى قناع للمصالح الأكثر فئوية، الهدف نفسه: الحفاظ على الحكم من دون أي أجندة أخرى، لا عولمية ولا إقليمية ولا وطنية... يتبع