صنعاء نيوز/ سمير عادل -
في سلسلة من المقالات المتتالية، تحدثنا عن أفق حركة الصدر الاستعراضية في المنطقة الخضراء، والأهداف التي يتعقبها، وما وراء شعاراتها، أما في هذه المساحة المتاحة لنا، سنتحدث عن الماهية الاجتماعية والسياسية لهذا الاستعراض الذي لا تعيه الكثير من القوى السياسية سواء عن قصد أو بسبب حماقتها، للقفز مع هذه الحركة في سماء الشعبوية، عسى ولعل أن تكسب رضا جمهور معين أو تكسب جزء منه، ولكن النتيجة ستكون سقوط بشكل مدوي على راسها في مستنقع رجعي لا قرار له.
مهما تشدق مقتدى الصدر وتياره السياسي بالشعارات الطنانة والرنانة المغلفة باللون “الوطني”، ألا أنه لا يمكن إخفاء الطابع الرجعي شكلا ومضمونا لتظاهراته وعموم حركته، حيث المساعي الحثيثة بتشديده التمسك بالراية الطائفية على الرغم من نشر الضبابية الوطنية حولها، والمحاولة لقيادة الإسلام السياسي بلونه الشيعي لازاحة منافسيه في نفس البيت الشيعي الذي يحاول ذر الرماد في العيون بأنّه تمرد عليه.
أنّ الاسلام السياسي يعيش أحلك أيامه وخاصة جناحه الشيعي في العراق، وقد لعبت انتفاضة تشرين/ اكتوبر دوراً كبيراً في تسديد ضربة قاصمة له، كما بينا في مناسبات عديدة، بيد أننا سنركز على التيار الصدري الذي يحاول امتصاص تداعيات تلك الضربة عبر حركته الاخيرة كتحصيل حاصل تحت عنوان القضاء على الفساد والمفسدين. وبقدر محاولة هذا التيار الشعبوي بمحتواه الإسلامي و بغلافه القومي بالحفاظ على امتيازاته ونفوذه السياسي من خلال صراعه على السلطة، بنفس القدر يعمل على تجديد هويته الاسلامية-الطائفية ونفخ الروح في جسد الإسلام السياسي المتهالك على الصعيد الاجتماعي والسياسي.
مسألتان يجب الاشارة اليمها للاستدلال على المحتوى الطائفي والرجعي لتظاهرات الصدر التي أيدتها بعض القوى السياسية التي تسمي نفسها ب"التغيير الديمقراطي"، لتهوى مجددا وللمرة الثانية في فخ الاوهام بشكل اختياري، الاولى تسمية حركته أي حركة الصدر وعموم تظاهراته بالثورة العاشورائية ، والثاني غياب النساء بشكل كلي عن هذه الحركة
ساحة التحرير وغصة الإسلام السياسي:
إن تحويل ساحة التحرير الى مكان لتنظيم مناسبة اللطم والتطبير، لها دلالات سياسية واجتماعية عميقة، ويجب الوقوف عندها. لقد كانت ساحة التحرير رمزا للتغيير الثوري، رمزا للحرية، سواء بالنصب الذي شيده جواد سليم، او بالدلالات السياسية والاجتماعية التي مردها التظاهرات التي نظمت فيها، واخرها كانت انتفاضة اكتوبر، لتتحول الى رمز السقوط لكل الترهات والخزعبلات الدينية والطائفية. اي بعبارة اخرى كانت ساحة التحرير ومنذ انتفاضة شباط ٢٠١١ الشوكة التي تغص في حلق سلطة الإسلام السياسي.
أن ساحات الاحتجاج، التحرير والحبوبي وام البروم والعروسة والصدرين الحقت هزيمة سياسية واجتماعية بهذا التيار في انتفاضة اكتوبر، وكانت (التحرير) تتصدر تلك الساحات بشعاراتها التقدمية المعادية للإسلام السياسي وسلطته الفاسدة والجائرة. ولذلك حاول الصدر وخلال مناسبات سابقة قبل انتفاضة أكتوبر في إضفاء طابعه عليها. وفي تظاهرات تموز ٢٠١٥ التي انطلقت منها شعارين لتجتاح ساحات مدن العراق وهما (باسم الدين باكونا الحرامية، ومن دخل بيها ابو العمامة صار البوك للهامة) و التي اغاضت الصدر في حينها، إذ حاول الصدر تغيير لون التيار الصدري والتعمية على ماهيته الطائفية الى لون وطني عبر رفع أعلام العراق، إلا ان انتفاضة اكتوبر حسمت هذه المسالة ووضع التيار الصدري في خانة المليشيات الطائفية لا من حيث الولاء السياسي لعمائم قم-طهران، إنما من حيث الماهية الاجتماعية، الماهية الدينية الطائفية.
اليوم يحاول الصدر وتياره السياسي الانتقام من ساحة التحرير، وسلب هويتها العلمانية والتحررية، وتغيير ذاكرة التاريخ، ذاكرة انتفاضة أكتوبر. فتنظيم المواكب الحسينية في ساحة التحرير هو رسالة سياسية للمجتمع العراقي عموما مفادها؛ بأن ساحة التحرير هي ساحة طائفية، ساحة استردها الإسلام السياسي الشيعي من قبضة الجماهير التي رفعت شعارها العفوي (باسم الدين باكون الحرامية)، ولا يسمح لها ان تكون ساحة تسقط فيها الهويات الطائفية والقومية والدينية، لا يسمح ان تكون رمزا للثورة والتغيير في العراق، ولا يسمح أن تتدحرج كرة السلطة السياسية الى القوى الثورية التي ترفض كل العملية السياسية والقوى السياسية، بما فيها التيار الصدري الذي لم يقدم الى الان كشف حساب الى جماهير العراق، منذ كان جيش المهدي يتفنن بالقتل على الهوية مع اقرانه في الدين مثل القاعدة وجيش عمر وابو بكر، متزامنا ذلك القتل مع الاستحواذ أي التيار الصدري على ستة وزارت خدمية والمئات من المناصب الخاصة ، وهي مرحلة تدجين التيار الصدري في السلطة السياسية، ليتحول بعد ذلك الى القوة الرئيسية الأولى في حماية النظام الطائفي-المحاصصاتي في العراق
الصدر وإنقاذ الإسلام السياسي:
أي متابع للمشهد السياسي العراقي، وحركة القوى السياسية الاسلامية، يرى أن مقتدى الصدر وتياره بالذات كان أكثر تلك القوى السياسية في البيت الشيعي حرصا وقلقا على مكانة التيار الإسلامي. وسبق الجميع منذ غزو واحتلال العراق في مساعيه الحثيثة لفرض المشروع الإسلامي في العراق على إنقاض ما بدأه صدام حسين بحملته الايمانية منذ عام ١٩٩٦. وعير مليشيات جيش المهدي وتحت شعارات حربه مع الاحتلال، فرض الحجاب على النساء وأشاع ممارسة الطقوس الدينية والاحتفاء بالمناسبات الشيعية، والمضي في فرض الفصل الجنسي في المدارس في مناطق نفوذه، وشن سلسلة من التفجيرات ضد محلات بيع المشروبات الكحولية او قتل باعتها وتم احراق العديد من محلات بيع الأقراص السيدي المحملة للاغاني وأسس ما يسمى مجموعة "المهدويون" لدراسة أصول الدين الإسلامي في الفقه والتاريخ والفلسفة لمحاربة الملحدين والعلمانيين، وبعد انتفاضة أكتوبر أعد العدة لاصلاح ما لحق بأضرار بسمعة واعتبار الإسلام السياسي، فعشية الانتخابات الأخيرة قاد اجتماعات مطولة مع هيئته السياسية وخطباء الجمعة المنتمين لتياره، وكان محورها تجديد هوية المذهب والإسلام والوطن (انظر مقالنا الثالوث المقدس؛ المذهب والإسلام والوطن-تموز ٢٠٢١)، أي تجديد المحتوى والخطاب السياسي الشعبوي.
إنّ التيار الصدري من دون المذهب لا مكان له في المحاصصة السياسية، انه يتغذى على الارضية الطائفية التي هيئها غزو واحتلال العراق، وإن المأزق السياسي الذي يعيشه الصدر وتياره السياسي الذي يعبر عنها مرة بإلغاء الدستور وإنهاء العملية السياسية ثم النزول من على الشجرة والمطالبة بحل البرلمان وانتخابات مبكرة ليجمعها في سلة الثورة العاشورائية، وبعيد عن الهالات والتطبيل الاعلامي لتظاهراته وصخب بياناته والتي تنفض الغبار عنها آجلاً او عاجلا، يكشف هذه التخبطات عن الازمة السياسية التي يعيشها هذا التيار على الصعيد الهوية السياسية والاجتماعية.
لقد نشرت صحيفة (وول ستريت جورنال الأمريكية) مقالا قبل اكثر من اسبوع، أشار بأن الصدر يحاول أن يحذو حذو الخميني إبان اندلاع شرارة الثورة الايرانية عام ١٩٧٩ في رفع شعارات معادية لامريكا وشعارات وقومية، إلا أن صاحب المقال فاته الفارق بين الخميني والصدر، هو أن الأول ركب موجة النزعة المعادية للامبريالية الامريكية بسبب دعمها اللامشروط لنظام الشاه، ولم تكن جماهير إيران تتذوق بعد مرارة الحياة والعيش والعوز والاستبداد في ظل سلطة الإسلام السياسي، حيث كانت في بداية الثورة، وبمساندة قوى سياسية اخرى مثل حزب (توده) ايران -على غرار الحزب الشيوعي العراقي اليوم، مثلما نشاهد تاييده لتظاهرات الصدر ــ وغيره من اليسار الذي ليس في جعبته سوى (تشجيع الصناعة الوطنية والمعاداة للإمبريالية وبلد مستقل)، زادت من نشر الأوهام في صفوف الجماهير الايرانية لتعميتهم عن الحقيقة الرجعية لهذا التيار المناهض لكل ما هو إنساني، ولذلك كانت الاسلامية والقومية الايرانية والمطرزة بالمعاداة لأمريكا “الشيطان الكبر” خليط قدمه الخميني الى جماهير ايران كي تبلع الطعم. بيد أن الصدر ومشروعه (حكومة الاغلبية) اصلا مدعومة امريكيا، واشرنا اليه في اكثر من مناسبة، ليس في جعبته ما يضيفه الى هويته، الى جانب الضربات التي وجهتها انتفاضة أكتوبر للإسلام السياسي عموما و إزاحته عن السلطة التنفيذية.
إن الحقيقة هو ان الصدر بات يدرك ان الاغلبية المطلقة لجماهير ترفض بشكل كلي الإسلام السياسي ولذلك راح يرفع شعارات (وطنية) وبموزاته يدغدغ المشاعر المتخلفة لقسم من الجماهير، ولكن في نفس الوقت لا يمكنه تمزيق هويته الطائفية لا على الصعيد الايدليوجي ولا السياسي والاجتماعي، فقد بات يترنح اثر ضربات انتفاضة اكتوبر بين الجذر التحرري والعلماني للمجتمع العراقي وبين أنّه لا يمكنه التخلي عن هويته الاسلامية الطائفية.
واذا اخذنا حتى بشعاره (العراق) فوق كل شيء ومصلحة (العراق) فوق الجميع، و(العراق) اسير بين الاحتلال والارهاب والفساد واعلام العراق ترفرف في تظاهراته، اي اذا ما اخذنا (بالوطنية) كشعار ونزعة سياسية واجتماعية، حيث تمثل اقوى التيارات الاجتماعية، فأن الصدر يحاول ترويض (الوطنية) ولوي عنقها تحت جناح تياره السياسي الذي سمى حركته بالثورة العاشورائية. والوطنية كمقولة في القاموس السياسي للبرجوازية، تعني الترفع عن هويات كل القوميات والطوائف والاعراق والاجناس، والولاء للجغرافية التي تعيش فيها. وفي جغرافية العراق هناك معتقدات دينية وليس كلها مؤمنة بالمنهجية والفقه الشيعي، ولا تؤمن بالثورة العاشورائية ولا تعنيها لا من قريب ولا من بعيد كل القصص التاريخية الدينية للشيعة سواء كانت محض خيال ونسجت خلال الصراع السياسي او هي حقيقية، مثلما “الشيعة” لا تهمها ايضا قصص وتاريخ والفقه الديني لتلك المعتقدات. الا ان الصدر يريد فرض روايته الشيعية لقسم من التاريخ الإسلامي وتسويقها على أنها تلخص الوطن، وهي محاولة جهنمية لكنها فاشلة في دمج بين وطنية مذهبه وطائفية معقتده.
وعلى مدى السنوات المنصرمة، كان هناك تنافس عميق بين قوى الإسلام السياسي الشيعي في إحياء مناسبة عاشوراء التي تعتبر واحدة من المناسبات المركزية لقوى الاسلام السياسي الشيعي، من اجل اعادة انتاج وجودها السياسي وتخليد مواقعها في المحاصصة السياسية بذريعة ان الشيعة تشكل الاغلبية في المجتمع العراقي، لا على صعيد اقامة الولائم والمواكب فحسب التي تمول وتقام عن طول الطريق الواصل بين شمال العراق بدءا من كركوك و صلاح الدين وفي طول وعرض الطرق بين المدن الجنوبية وصولا الى كربلاء، وكلها من أموال مسروقة ومنهوبة من عرقنا وثرواتنا، بل ايضا ظهور لشخصيات القوى الشيعية تتقدم هذه المناسبات مثل العبادي والمالكي والحكيم والعامري.الخ. اما هذه السنة فقد ضرب الصدر ضربته وسمي حركته بالثورة العاشورائية اضافة الى انتحال صفة شخصية (حفيد الحسين) لتذييل توقيعه على عدة منشورات وتغريدات وبياناته، وهي كما قلنا عنها فرصة لانتزاع التمثيل الرسمي للبيت الشيعي في الصراع السياسي المحتدم بين الاخوة التوائم.
غياب نساء انتفاضة أكتوبر في تظاهرات الصدر:
لقد عجت انتفاضة أكتوبر بالاف من النساء التي اغاضت مقتدى الصدر والتيار الصدري، ولذلك طالب الصدر بفصل الذكور عن الاناث او النساء عن الرجال في الانتفاضة، و جاء رد النساء مدويا في اليوم التالي وعبر هتافات (شلع قلع والكالها وياهم) رغم تهديدات مليشيات التيار الصدري (القبعات الزرقاء) والاستعراضات التي قامت بها واطلاق الوعيد بشكل مبطن لوجود النساء.
إن غياب المرأة، المرأة التي كانت موجودة في انتفاضة شباط ٢٠١١، وفي الاحتجاجات التي هربت فيها الحكومة المحلية في البصرة في ايلول ٢٠١٨، ووجودها في انتفاضة اكتوبر، نقول أن غياب تلك المرأة في تظاهرات الصدر بحد ذاته له دلالة سياسية واجتماعية مهمة تكشف عن ماهية هذه الحركة. أي عندما يغيب قسما اجتماعيا واسعا في المجتمع، وهو الذي تعرض من اكثر الاقسام الاجتماعية الى ظلم سافر على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من السلطة الاسلامية-الأبوية البطريركية الذكورية الفاسدة،نقول يغيب عن تظاهرات يفترض منها الاصلاح كما يدعي اصحابها او مثلما يسوق الصدر نفسه على أنه منقذ للمجتمع والاستفادة من شخصيته، فاي علامة استفهام يضع ذلك الغياب على هذه الحركة أو هذه الاحتجاجات؟
وبهذا يستشف المرء دون عناء التحليل، لا مكانة للمرأة في حركة الصدر، لأنها لا تجد نفسها شريكة مع أهداف الصدر وهويته الاسلامية التي سماها بالثورة العاشورائية. ان النساء في العراق تعي أن وصول حكومة الصدر الى السلطة، يعني مزيد من دونية المرأة، ومزيدا من سن القوانين الاسلامية لخنقها ومزيدا من الاجحاف الاجتماعي بحقها، واعادتها قهقريا إلى الوراء إلى القرون القروسيطة، وسلب حتى المكتسبات البسيطة التي حصلت عليها، اليس هذا ما نشاهده في مناطق نفوذ مليشيات الصدر، حيث النساء يعاملن باعتبارهن من الدرجة الثانية. وكان ما وراء مطالبة الصدر بالفصل بين الإناث والذكور في التظاهرات، هو إدراكه بتقدم النساء الى الامام، ويرفعن مشعل التغيير الثوري كتفا الى كتف الرجال، يعني بأن الإسلام السياسي أصبح خارج المكان والزمان ويتقدمهم التيار الصدري، فكما يقول انجلز في جملته المشهورة ان تحرر المجتمع مرهون بتحرر المرأة.
بمعنى اخر ان تظاهرات الصدر تكشف عن أنها حركة علاوة على رجعيتها بالأفق والأهداف التي تتعقبها وشعاراتها المضللة وماهيتها الاجتماعية والسياسية المتناقضة مع الحرية والمساواة بالمعنى المطلق لهذه المقولات، فإنها في مأزق وتناقضات سياسية كبيرة، من الممكن تجر المجتمع الى فوضى امنية من اجل مصالحها.
واخيرا نختتم حديثنا بالعودة الى صاحب المقال في (وول ستريت جورنال)، فإنه نسى ان يقول ان احداث التاريخ في الثورة الايرانية انتهت بشكل تراجيدي، ومن فصولها تقديم صفا كبيراً من اليسار والشيوعيين على مشانق الخميني، والذي عبد الطريق لها مواقف حزب تودة وسياساته تحت شعار معاداة الامبريالية الامريكية، في حين يرسم سيناريو الأحداث في الثورة العاشورائية بشكل مهزلة ( التاريخ يعيد نفسه مرتين مرة تراجيديا واخرى مهزلة- ماركس-الثامن عشر من برومير)، وان اول القوى السياسية التي وقعت في كمين الصدر وسجلت اسمها في موسوعة غينيس للمهزلة، هو من تزين بلباس الحمقى في حفلة تنكرية ضنا منه سيجد ضالته وينقذ نفسه من مأزقه السياسي. |