صنعاء نيوز/ - مراكش- وارزازات- رأي اليوم”/ سعيد المرابط:
الواقع البيئي بالمغرب صار مرعبا، إلى درجة لا يرقى إليها الشك، هذا ما يقوله المجرى الفارغ لواد تانسيفت، بمراكش الحمراء، فقد جف إلى حد ليس معه ما يبشر باستئناف جريان الماء، اللهم إذا صب الغيث.
في المناطق الداخلية من البلاد، ترتفع درجات الحرارة بشكل متسارع، إذ وصلت الحرارة إلى المناطق الأكثر اعتدالًا حتى الآن، كما تسبب أسوأ جفاف منذ ثلاثة عقود في اختفاء أنهار ووديان بأكملها وانحسار للواحات، الحزام الأخضر يطوق خاصرة الصحراء.
“كان هناك ماء ذات يوم”
في هذا الحر، لم تعد مراكش حمراءً، بل صفراء في هذا اليوم الآبي القائظ؛ ولكنها لا تزال في غنجها ودلالها الدافئ المعهود.
في ضواحيها، وتحت درجات الحرارة البالغة الـ43 درجة؛ لم يعد للماء الذي كان منسابا أي أثر، إذ خلفه غطاء من بلون القش يغطي الصخر الذي يمتد أمام أعيننا كدليل على أن الماء كان يتدفق هنا في مرحلة ما في الأشهر القليلة الماضية.
“كان هناك ماء ذات يوم”، يقول أحد شاب توقف أمامنا، قبل أن يقطع الشك باليقين، ويعود إلى دراجته النارية ليصعد، تاركًا إيانا نتمعن في قاع الواد الجاف الموحش والمتوحش حد الكآبة.
يقع واد تانسيفت، في منطقة النخيل المتناقضة، فهي جرداء مجاورة لمدينة مراكش النابضة بالحياة والنخيل الشاهق والشجر وافر الظلال.
أحمد البلغيتي، شيخ من سكان المنطقة المجاورة للواد، يركب أحمد دراجة نارية، يحمل على مؤخرتها ثلاث براميل ماء فارغة، استوقفناه وهو متجه ليملأهم بماء الحنفية العمومي.
قال وهو ينظر للأرض الجافة والتي تحيط بنا بعيون حاسرة، “في السبعينات، كانت هذه المنطقة خضراء؛ تنموا عليها أشجار الزيتون والرمان، والماء كان يجري على وجهها”.
يرتدي أحمد قبعة من القش، ذات حافة عريضة لتقيه لهيب شمس آب المتقدة، ينظر ذات اليمين وذات الشمال ويخبرنا أن الواد ” منذ فترة وهو في طريقة إلى الجفاف تمامًا”.
ويضيف “الآن يتعين علينا حفر آبار مساحتها 130 أو 140 مترًا للعثور على المياه، ولكنه يخرج مالحًا، غير صالح لأي شيء”.
يعيش المغرب حالة شح مائي، وهو على بعد خطوة واحدة من ندرة هذه المادة الضروريةللحياة، وقد أدى خطر نقص مياه الشرب إلى فرض مدن كبيرة مثل الدار البيضاء والرباط بتعليمات من وزارة الداخلية؛ قيودًا على الاستهلاك.
المسيرة، ثاني أكبر السدود بالبلاد، أصبح خالٍ من الناحية العملية؛ فالبلاد تمر بأسوأ جفاف في العقود الثلاثة الماضية.
أسوأ جفاف منذ عقود
وقاد هذا التغيير التدريجي إلى تأثير على الزراعة، وعلى الحياة بالمدن؛ فهذا الصيف تضرب البلاد موجات الحرارة الخانقة، التي دفعت المديرية العامة للأرصاد الجوية إلى إعلان سلسلة تحذيرات في تموز/ يوليو من درجات الحرارة القصوى في كل منطقة تقريبًا في البلاد.
ويشرح محمد البُغادي مستشار بيئي، “إنه احتباس حراري يتسبب أيضًا في انحسار الواحات، المناطق الرطبة المتواجدة بالصحراء”.
هذا الخبير يضيف في حديثه لـ”رأي اليوم”، عنصرًا آخر لفهم الأزمة الحالية، ففي مناطق الجنوب الشرقي، “تقلصت بعض هذه النظم البيئية بنسبة تصل إلى 30 بالمئة”.
“وعندما نتحدث عن تقدم الصحراء، يمكنك أن ترى ذلك، واضحًا؛ من موسم إلى آخر، فهناك مزارعون لم يعودوا قادرين على العثور على أراضيهم لأن الرياح جرفت الرمال فوقها، وغزتها”.
ويشدد على أنه “إذا لم نتحرك، فسنرى كيف تصل الصحراء إلى جنوب أوروبا”.
مستقبل أسود
“تفقد البلاد 22 ألف هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة كل عام”، وفقًا لبيانات جمعية “أطاك” المغرب، ولتجنب ذلك، يتم تنفيذ تدابير تثبيت الكثبان الرملية وأنواع من النباتات لتوقيف كثبان الرمال عند بوابات الواحات التي تتواجد بالمدن والبلدات.
ويقول الحسين أوسوقل، المتخصص الذي يعمل على الأرض، إن التهديد الذي تتعرض له هذه الأحزمة الخضراء تأثر على المناظر الطبيعية، و”تلقي بثقلها بشكل خاص على المواطنين الأكثر هشاشةً؛ اجتماعيًا واقتصاديًا”.
ويقدر الخبير البيئي، أنه في غضون 20 عامًا، سيكون الوضع “غير مقبول” على عدة مستويات فـ”المستقبل يلوح بالسواد والحزن، وعلى المسؤولين والقائمين على رسم السياسات في العالم حماية هذه الموارد”.
صيفٌ قائظ وحرارة لا تطاق
في مراكش قد تبدو الحرارة وكأنها روتين، شيء عادي ولكن ذلك عند الحديث عن الحرارة في الـ40 أو الـ43 درجة في الصيف، ولكن أن تصل إلى الـ46 أو الـ48، فإن الحرارة تصبح مسألة لا تطاق.
وأظهر استطلاع أجراه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ أن اثنين من كل ثلاثة مغاربة “يعتبرون الاحتباس الحراري حالة طارئة”، وأن أكثر من نصف السكان “يطالبون بسياسات سريعة وفعالة من حكومتهم”.
من مراكش، يقول عبد الرحيم خالص، أستاذ جامعي، مهتم بدراسات التنمية في المجال البيئي، أن قمة المناخ التي استضافتها مراكش في عام 2016 “سلطت الضوء على هذا القلق بين الناس، وفي مدن مثل هذه كان الجو حارًا دائمًا في أشهر الصيف، وهي حقيقة، ومنذ خمسة سنوات، صار أكثر وأكثر “.
خالص، هو مدير بالنيابة لـ”المرصد المغربي للأجيال المقبلة”، يتواصل مع خبراء من الدول العربية الأخرى لتطوير المعرفة البيئية، يؤكد لـ”رأي اليوم”، أن الدولة “تعمل على تطوير خطط إستراتيجية، وأطلقت محطات حرارية شمسية عملاقة لتقليل انبعاثاتها”.
استخدام الموارد المائية هو نقطة الضعف، على عكس الدول الساحلية الأخرى، إذ لا يمتلك المغرب مساهمة مائية من أي نهر كبير عابر للحدود، ومعظم تلك التي تعبر أراضيه، موسمية، تميل إلى الامتلاء بشكل مرتبط بالمطر، الذي صار متقطعًا أكثر فأكثر.
وأوضح البنك الدولي مؤخرًا في أحد تقاريره الأخيرة بأن “قلة هطول الأمطار بانتظام هو مصدر عدم استقرار للاقتصاد الكلي”.
ويتوقع “انخفاضًا بأكثر من نقطة واحدة في الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الوطني؛ بسبب هذا الوضع المتأثر فعلا بالحرب في أوكرانيا”.
ويحتل المغرب، بحسب باحثين دوليين، “إحدى مناطق العالم الأكثر تعرضا لظاهرة الاحتباس الحراري”، وذلك بشهادة الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ. وينتقل هذا التغيير إلى مناطق أكثر اعتدالًا، متجهًا بالفعل نحو فترات صيف قائظ مع ارتفاعات قياسية في الحرارة.
ويؤكد خالص “درجات الحرارة سترتفع في مناطق كثيرة لأنها ليست رهينة لأي منطقة جغرافية”.
“أجوبة المستقبل في الماضي”
من مراكش، إلى وارزازات شددنا الرحال، فوجدناها فعلا، مدينة بلا ضجيج، هادئة وديعة، رغم أنها تجمع بين ظهرانيها كل الأعراق والهويات، في فسيفساء ورزازاتية لا تشبه إلاها؛ فهنا الأمازيغ، وهنا العرب، السود، البيض والقمحيون، وهنا بقايا آثار لأبناء إسحاق، حفدة إبراهيم كليم الله.
هنا الحرارة، الصحراء والكثبان، الأعراق والألوان، الطين والفخار؛ وفيء لنخل باسقات؛ وكل ذلك يرسم فتنة هذه المدينة المعشقة بالتاريخ والسينما.
ورزازات، لا يمكن إحصاء كل ما تجمعه من مفاتن؛ فهنا يمكن لعيونك أن تغازل التاريخ في حيطانها، وأن تتمشى في الحاضر على الأسفلت، أو تحتسيهما معًا في فنجان قهوة على الأرصفة المتراصة في الهواء الطلق.
وهنا أيضًا تقف الجدران شامخةً رغم عوادي السنين، فالمدينة ترشح بالنموذجية في الهندسة المعمارية المحلية التي تفتقت عنها عبقرية السكان الأصيلين، للوقاية من العواصف الرملية، من الحر ومن القر كذلك.
ولكن التعامل مع هذا التغييرات المناخية يعرف حالة من عدم اليقين بالبلاد، ويزيد من ظاهرة الهجرة القروية وتخلي السكان عن قراهم ومناطقهم البدوية، ما يظهر تغييران في المناطق المغربية؛ الأول، نمو المدن الكبرى، على شكل طرق واسعة وطويلة وليس على شكل المباني الشاهقة، فالمغاربة يفضلون التهوية، لكنهم يؤدون إلى زيادة استخدام السيارات، وهنا مثلا في مراكش؛ صار الجو الرطب الاصطناعي لمكيفات الهواء هو الصديق الذي لا غنى عنه.
النموذج الآخر موجود في مدينة ورزازات، إذ يدافع محمد بوخرواش، وهو دليل سياحي بالمدينة التاريخية المتاخمة للصحراء؛ بشكل مقنع عن قيمة تقنيات البناء التقليدية التي استعملها الأولون، حيث بنوا “جدرانًا من الطين بسمك 70 سم، ونوافذ صغيرة وأزقة مظللة تسمح بالتهوية الرطبة وبخفض الحرارة بحوالي عشر درجات”.
كما يوضح الشاعر الورزازاتيُّ، لـ”رأي اليوم”، أن الملابس البدوية الفضفاضة والتقليدية تساعد في تهوية الجسم “إنها تجعل الجسم يتعرق، وعندما نتحرك، يدور الهواء في الداخل ويبردنا”، ويقول باسمًا “بدون عرق لا نبرد”.
وعندما سألناه عن المستقبل، أناخ بصره بعيدًا وفكر لبرهة، “لدينا بالفعل العديد من الأجوبة عن أسئلة المستقبل في الماضي“. |