صنعاءنيوز / عبد الباري عطوان - فمَنْ هُم ومن الأفضل حظًّا؟ وكيف انقلبَ سِحرُ خطط التّهجير على المُستوطنين؟ ولماذا أرسلت أمريكا منظومات صواريخ “ثاد” و”باتريوت” بعد “الحامِلات” إلى المِنطقة ومن الهدفُ الحقيقيّ؟
دخلت حرب الإبادة الإسرائيليّة على قِطاع غزّة المُحتل أُسبوعها الثالث، و”الإنجاز” الوحيد الذي تمّ تحقيقه حتى الآن هو استِشهاد ما يَقرُب من خمسة آلاف مدنيّ مُعظمهم من الأطفال والنّساء، بينما بقيت البُنية التحتيّة لفصائل المُقاومة في القِطاع على حالها، باستثناءِ اغتِيالٍ واحدٍ أو اثنين من القِيادة المدنيّة السياسيّة لحركة “حماس”.
دولة الاحتِلال تُكثّف هذه الأيّام غاراتها الجويّة على القِطاع المُحاصر، ويستشهد ما يَقرُب من الثّلاثمائة مُواطن يوميًّا بصواريخها، ويقول المُتحدّثون باسمها أنّها تُقدم على هذا المجازر استِعدادًا للانتِقال إلى المرحلة الثانية، أيّ الحرب البريّة التي تأجّلت عدّة مرّات خَوفًا ورُعبًا من نتائجها.
***
نشرح أكثر ونقول إن دولة الاحتِلال تملك فعلًا السّيطرة الجويّة الكاملة بسبب ما تملكه من طائرات حربيّة أمريكيّة حديثة مثل “إف 16″ و”إف 15” والشّبح “اف 35″، ولكنّ المُقاومة تملك الإرادة والشّجاعة والسّيطرة على الأرض، وما تحتها، ولا حيلة لها في مُواجهةِ هذه الحرب الجويّة، وتنتظر حرب الشّوارع والمُدُن التي ستكون لها الغلبة فيها على أحرّ من الجمر.
خطّة التّهجير التي عوّلت عليها أمريكا وابنتها “إسرائيل” كثيرا، وكانت بمثابة “أهمّ الخطط” والمحور الرئيسيّ لهذه الحرب، فشلت فشلًا ذريعًا، ولم ينجح أنتوني بلينكن في تسويقها للعواصِم العربيّة الحليفة، أو التّابعة لسببين رئيسيّين:
الأوّل: رفض السّلطات المِصريّة لهذه الخطّة، واستِقبال مِليونيّ فِلسطين من أبناء القِطاع بمُقتضاه في مدينة خيام في سيناء، وجاء هذا الرّفض لاعتباراتٍ سِياديّةٍ مِصريّةٍ صِرفة، وليس لاعتباراتٍ فِلسطينيّةٍ، فالشّعب المِصري الذي يعتبر الأرض مُقدّسةً بالنّسبة إليه، ويَرفُضُ رفضًا مُطلقًا بيعها ولو بملايين المِليارات، فأكبر عارٍ عند المِصري هو بيع الأرض، وربّما يُمكن التّذكير بمُسلسل “عوّاد باع أرضه يا ولاد” الذي يُجسّد هذه الحقيقة وحظي بأعلى شعبيّة في تاريخ المُسلسلات المِصريّة.
الثاني: رفض الغالبيّة السّاحقة من أبناء القِطاع مُغادرة أرضهم، وتِكرار نكبة عام 1948، ولانعِدام الثّقة لديهم بالجُيوش أو الحُكومات العربيّة ووعودها، وقد يكون البعض منهم انتقل من شمال غزّة إلى جنوبها رُضوخًا للتّهديدات الإسرائيليّة بالإبادة، لكنّهم لن يتجاوزوا الحُدود إلى مِصر مهما تضخّمت المُغريات، وازدادت عمليّة التّطهير العِرقي الإسرائيليّة الحاليّة شراسةً، ومعلومتنا أن أعدادًا كبيرةً جدًّا عادت إلى منازلها، أو رُكامِها، واختارت الشّهادة.
إذا صحّت التّقارير الإعلاميّة التي نشرتها صُحف إسرائيليّة اليوم وتقول إنّ حُكومة نِتنياهو بصدد إقامة مدينة خِيام في إيلات على البحر الأحمر لاستيعاب المُهجّرين اليهود من المُستوطنات ومُدُن غِلاف القِطاع مِثل سدروت وعسقلان وأسدود، هُروبًا من هجمات المُقاومة، ويبدو أن هذه التّقارير صحيحة، فإنّ هذا يعني أن انقَلاب السّحر على السّاحر، وهذا أحد أبرز إنجازات المُقاومة، وصُمود أهل القِطاع، فالتّهجير باتَ للمُستوطنين في جنوب فِلسطين وشِمالها، بالإشارة إلى تفريغِ أعدادٍ كبيرةٍ من المُستوطنات والبلدات في الجليل.
الولايات المتحدة تُعزّز جاهزيّتها العسكريّة في شرق البحر المتوسّط، فبعد إرسالها ثلاث حامِلات طائرات، وعشَرات الأطنان من الذّخائر، وخاصّةً “أمّ القنابل” لتفجير الأنفاق تحت القِطاع، أعلن لويد أوستن وزير دِفاعها اليوم إرسال منظومات صواريخ “ثاد” و”باتريوت” والهدف مُزدوج، أيّ توفير الحِماية للمُستوطنين اليهود في فِلسطين المُحتلّة وطمأنتهم، وتهدئة روعهم، والدّفاع عن القواعد الأمريكيّة في العِراق والأردن وسورية، التي باتت تتعرّض لقصفٍ شبهِ يوميٍّ بالصّواريخ من قِبَل أذرع محور المُقاومة، بعد تزايُد المخاوف من دُخول “حزب الله” وأنصار الله (اليمن) والحشد الشعبي في العِراق، هذه الحرب وتوسيع نِطاق هجَماتِها.
ما يُمكن استِنتاجه من كُلّ ما تقدّم أن مُعظم، إن لم يكن جميع، التّقديرات الأمريكيّة الإسرائيليّة لحرب غزّة، وما بعدها، لم تكن دقيقةً على الإطلاق، بل فاشلة، وجاءت نتائجها كارثيّة على دولة الاحتِلال، والوجود الأمريكي في المِنطقة، فحركة “حماس” الذي تعهّد بنيامين نِتنياهو أكثر من مرّةٍ بتدميرها وإزالتها من الوُجود، ما زالت مُتَمتْرِسَةً في أنفاقها، وتُطلق الصّواريخ على تل أبيب، وسياسة التّهجير فقد جرى وأدها مُبْكِرًا، والشّيء نفسه يُقال عن قصف مُستشفيات وقتْل الأطفال الذي دمّر صُورة الدّولتين، أمريكا وإسرائيل، والغرب عُمومًا في العالم، ونزْع قِناع حُقوق الإنسان الكاذِب عن وجوههم حيث بدأ الرّأي العام العالمي يتغيّر، وباتت الحرب الإقليميّة وشيكةً جدًّا، ولن تنتصر فيها أمريكا، وربّما نرى مشهد الهلع في مطار كابول يتكرّر في مطار تل أبيب.
ولعلّ أغرب ما يتم تداوله هذه الأيّام ما نشرته وكالة “بلومبيرغ” الأمريكيّة المُقرّبة من البيت الأبيض حول بحث القِيادة الأمريكيّة مع حُكومة نِتنياهو تشكيل حُكومة مُؤقّتة في قِطاع غزّة كبديلٍ لحُكومة حركة “حماس” وهذا حتّى قبل أن يبدأ الهُجوم البرّي.
إنّها أضغاثُ أحلامٍ، فكُلّ المُؤشّرات المُتوفّرة لدينا تُؤكّد أن حُكومة “حماس” باقية، والالتِفاف الشّعبي الدّاعم لها يزداد قُوّةً بعد هُجومها “المُعجزة” على مُستوطنات غِلاف غزّة، والحجم الضّخم من الخسائر البشريّة والمعنويّة، التي لحقت بدولة الاحتِلال من جرّائه، ولن تجرؤ أيّ جهة فِلسطينيّة سواءً من داخِل القِطاع أو خارجه (السّلطة) للمُشاركة في هذه الحُكومة التي ستأتي للقِطاع على ظهر طائرات حرب الإبادة الإسرائيليّة، فلن يَحكُم القِطاع إلّا مَن دافَعَ عنه، واستشهد في سبيله، وأذلّ دولة الاحتِلال.
حرب غزّة ستطول، والحرب البريّة التي يُهَدّد بها نِتنياهو كُل يوم، دون أن يجرؤ وقوّاته على خوضها قد تكون مِصيَدةً لهُ مُحكَمة الإعداد، وبداية النّهاية لدولة الاحتِلال، ففي قِطاع غزّة أُسودٌ ونُمورٌ، وسيثأرون حتمًا لدِماءِ شُهدائهم وأطفالهم، ولن يُغادروا قِطاعهم إلّا إلى الجنّة بإذنِ الله.
***
إسرائيل إذا لم تُواجه حربًا إقليميّةً، وتعدّد الجبهات، وهذا خِيارٌ ما زال قائمًا، فإنّها ستُواجه حرب شوارع ومُدُن وأنفاق ستطول، وستكون خسائِرها أكبر بكثير ممّا توقّعه أبرز جِنرالاتها الذين باتوا مِثل العرّافين والسّحرة، فالهزيمة باتت أمرًا واقعًا، وستُفرّخ أُخريات، فقد هزمت وطردت من القِطاع مرّتين، وستُهزم في الثالثة، ومثلما خرج لها رجال المُقاومة مِثل “العفاريت” من تحت الأرض في مُستوطنات القِطاع ودفعتهم للهُروب في ليلةٍ ليس فيها قمر، قد يتكرّر المشهد نفسه، وبصُورةٍ أقوى، وأكثر حداثةً وتخطيطًا، ففصائل المُقاومة طوّرت قُدراتها القتاليّة، وما زال في جُعبتها الكثير من المُفاجآت.. والأيّام بيننا.
Click here to print
Copyright © 2022 رأي اليوم |