|
|
صنعاءنيوز/ المقالح عبدالكريم -
(كثيراً ما نتساءل أمام صور فوتوغرافية معينة..
ما الذي فعله المصور حتى استطاع الاقتراب إلى هذا الحد... دون أن يكتشفه أحد..؟!!
بأي خطوات صافية استطاع الاقتراب من ذلك العصفور الرائع الذي حط على فرع الشجرة لبرهة وجيزة...؟؟)
-المصور إيف بنفوا-
الأبدية الأولى..!
في فنه إعجاز لا يفسر ..ومتعة لا تضاهي..
وعذوبة لا تقاوم..وروعة لا شبيه لها..
إدهاشه دائم.. لا يتوقف عند حدود.. وأكيد لن يتوقف..!
لقطاته آسرة كما ملامح جديدة عليك.. لكنها محببة.. تضخ تباشير حميمة تقطر ودا.. تماما كما حكاية أثيرة سمعتها في ربيع طفولتك.. وفجأة وبلا موعد مرتب مسبقاً.. تغمرك دواليها الخضر مجدداً.. بذات الصوت الحاني المألوف.. وذاتها الهناءة الدافئة..!
لحظة.. لكن من أين يأتي بكل هذا البهاء..؟!
أهو حبه للتصوير..أم هو عشقه للمكان.. ام تراه هيامه بالكائنات .. أيا كانت ومهما كانت؟! إنها الحياة.
الحياة وحدها هي سره الممتنع ولغزه الخفي.. يعيشها ثانية ثانية.. اللحظة عنده ملحمة نادرة .. عليه تصيدها بوله لا يحده حد. لقد تعلم الناس «العمل» .. ولكنهم وحسب مكسيم جوركي «لم يتعلموا الحياة»...وهو ما ساقه إلى احتراف عظيم من أفنان ثلاثة.. لا يدلك على مكامنه مثل الفيلسوف فريدريك نيتشه.. في إحدى مقولاته الخالدات .. تختصر ما نحن بصدده:» حبنا للجمال.. هو الإرادة المصورة..وقيمة الفن أنه الدافع الكبير للحياة..».
هكذا إذن: »حب الجمال - قيمة الفن - دافع الحياة«.
أنه تماماً ما خططت له الأقدار.. فكان أن لمع نجم مميز في فضاء الإبداع وتحديداً في مدار الفوتوغرافيا.. منذ أواخر ستينيات القرن العشرين..مع إبزاغه للعالم فجره الأول.. بكر لقطاته التي ما تزال كنزه الأثير المحتفظ به حتى لحظتنا هذه لمدى أهميته كونه يدرك كما في حواره المنشور في ملحق «الثورة الثقافي» أن (النشاط الأول لكل صاحب هواية يكون وفيراً.. ربما كنوع من محاولة الإشباع.. طبعاً كلها تندرج بعد ذلك.. تحت عنوان البدايات والمحاولات.. لأنها لا تتصف بأي احترافية) وربما لأنه دوزن في إطارها سمفونية الأرض المختزلة في نغمة جنانية التعابير أزلية المعاني.. عرفتها الإنسانية على مر عصورها تحت مسمى شائع واحد هو « الأم» أما الأداة فكانت أبسط مما يمكن تصوره .. خاصة إذا ما علمنا أنه تحصل عليها بجهد شخصي..
لحظة.. لكن ماذا عن مخططات الأقدار..؟
كيف أسطعت اسم عبدالرحمن الغابري في فضاءات الفوتوغرافيا..!!
إنها حكاية .. كما كاميرته الأولى.. بسيطة المكونات لكن فعالة الأداء.. تشي مضامينها بدلالات كثر لا تصدق.. تكاد تكون ضرباً من خيال ..كيف..؟!!.
ما إن تستطلع الممهدات وتراجع أبجديات التصوير.. سرعان ما سترفع حاجبيك دهشة لكم التطابق الذي ستقبض عليه في نهاية المطاف كنتيجة للمقارنة بينهما...ومدى ما فيهما من انعكاسات وتقارب.. ولتوضيح أدق وأبين.. سنسلك درباً من ثلاثة معالم.. أولاها: وصية الوصايا التي تنهد بها.»نيكوس كازانزاكس» على الشكل التالي» حينما نقف مبهورين أمام جلال عمل فني.. نحس أن متعتنا يتهددها فراق أبدي.. يحوم حول رؤوسنا.. وندرك أننا لا نملك غير لحظة واحدة من الخلود.. فلنسرع إذن باغتنام هذه اللحظة.. قبل أن ينتزعها منا الفضاء.. فليس ثمة شكل آخر الخلود».
أما آخرها - المعالم - فيتمحور حول الصورة..ولأن النظر ليس أبداً طريقة للتلقي بقدر ما هو ترتيب للمرئي.. لذا فإن الصورة حسب مو هو» تمتح معناها من النظرة.. كما يمتح المكتوب معناه من القراءة . فالصورة فائض الفكرة» أما الوجود داخل الصورة فمعناه البقاء في مداها الزمني الممتد والمجهول» كون الصورة في محصلتها النهائية كما يرى الباز هي الامساك بشيء وتثبيته على قطعة ورق، سواءً كان ذلك حائطاً قديماً أو لحظة نادرة» فأمام سطوة الزمن الذي يزيل الأشياء لا تجد الذاكرة تعويذه أفضل من الصورة».
وماذا بعد..؟!
المنطقة الوسطى.. مابين المعلمين السابقين..ماذا لدنيا.. لدينا كثير الكثير.. سنوجزه كما يلي:
> المكان: محمية عتمة محافظة ذمار.
> الزمان: أعوام خلال فترة الستينات من القرن العشرين.
> المشهد: «كوني فلاح وكوني ابن هذه الأرض.. وفي منطقتي.كان أبي وأمي يوفدانني يومياً.. قبل أن تصحو الطيور.. إلى الحقل.. كي أحميه من الغربان أو الطيور التي تأكل الذري».
هكذا إذن.. الصغير عبدالرحمن حارس يقظ يدافع باستبسال منقطع الحيطة والتنبه عن مكونات حقله.. صغراها وكبراها..لكنه فنان.. إدراكه أكبر من عمره... استجابته الجمالية لبدائع الطبيعة التي تحيطه.. إشارة بالغة لحس مرهف..دليل على ذائقته متناهية الاندهاس لشتى التفاصيل التي تتخاطر تجاهه متدفقة إلى مختلف حواسه فيلتهمها بنهم مدمن على العسل.. ما إن يعب كوباً منه حتى يتوق تلذذه إلى عشرة منه وأزيد..!
وها هو.. في حواره سابق الذكر.. ترسم لنا ذكرياته .. فياضة العبير.. في تجسيد رائع لبهيج لحظاته اللامنسية تلك »كنت أعيش أجواء تلك اللحظات البديعة في الريف اليمني.. كنت أستمع لأغاني الطيور.. لخرير المياه» وماذا أيضاً..؟!.
إنه الإنسان.. أساس المكان وجوهر الطبيعة.. والذي انهمرت تأملات الفتى عبدالرحمن صوبه.. على اختلاف جنسه ومهامه ومواقيته.. فمن « حركة البتول مبكراً هو وثوره» إلى راعيات الصباح مع قطعانهن و» المحطبات واللواتي يوردين الماء» وحتى تراتيل العبير المنداح من التفاصيل اليومية »كنت أستمع إلى المطحن.. وأشتم رائحة «الخبز.. خبز أمهاتنا وأخواتنا وفلاحاتنا..» لكن كم كان عمره حينذاك... عشر سنوات..!!؟ أقل.. !؟ أكثر..!؟
ما هم.. المهم أنه فتى مغاير.. إنسان آخر...وطد علاقة روحية مع الطبيعة منذ نعومة أظفاره ..خواطره عنها.. تأملاته فيها إصغاؤه لمعزوفاتها الأسطورية تدلك عليه وسنه.. إنه من ذلك النوع النادر من البشر... والذي لا يقاس عمره بعداد السنين لكن بمقياس خبراته وتجاربه ونمط علاقاته مع الآخر إنساناً و مكاناً.. لحد أوصله إلى ضفاف الحلم.. أن يمس وجده الوتر فيهامسه صداحا أنيقاً لكن بشرط هام: أن تبقى دندناته الولهى أبدية التحنان خالدة التكرار لروائعها الساحرة..!.
إنها بحق بداية فنان حقيقي.. أصيل فذ.. مادام في سني شبابه المبكرات تلك هفا إلى معانقة مستحيلٍ .. ربما لم يساور قلب أمرئ حفنة سناء منه... ممن أحاطوه حينها.. وربما ممن جاؤا قبله ومن أتوا بعده « حينها كنت أشعر بشيء في نفسي يدفعني إلى الاحتفاظ بكل هذا الجمال في نفسي.. كبر هذا الشعور إلى أن أصبح سؤالاً وهو كيف أعبر عن هذا الجمال. كنت طفلاً ولم يكن بمقدوري حتى الكتابة بعد .. لكن ازدحام مخيلتي بهذا الجو كان يكرر علي نفس الرغبة ونفس السؤال كيف؟ ما هي الوسيلة التي تمكنني من أبراز ولو جزء من هذه البيئة.. ومن هنا يمكن القول أن الطبيعة كانت ملهمي إلى هذا الجمال».
صاحب السحر..!
من منا يعرفه.؟ لا بل من منا لا يعرفه..؟!!
عبدالرحمن الغابري ... حروف اسمه - من كم - وهي مرادف لفن التصوير الفوتوغرافي.. تعريف به.. إشارة إليه.. دليل عليه..!.
الغابري اشتغال إبداعي لا تعبير مهما كان مبتكراً يفيه حقه تجربه فنية بامتداد الجمال.. التميز.. الفرادة.. إنه رؤية عبقرية لا يصفها كلام ولا يحيط بها معنى..!.
على امتداد مشواره الإبداعي حقق حضوراً .. أسس مدرسة خاصة به.. صوته أصبح مميزاً جداً ولو اختلط بألف صوت.. أسلوبه غدا فريد نوعه.. ولو جاء مقلد وحاول مجاراته بشبيه مشهد أو مثيل لقطة هنا أو صورة هناك. ولأن لكل شيء ثمن .. فلا بد من التغاضي « لأن التضحية مطلوبة» يقول في حوار آخر أجراه معه محفوظ البعيثي « من أجل المحافظة على الود فيما بين زملاء المهنة» لماذا وكيف..؟!.
أنما المعاناة الصامته التي يتجرعها مصور فوتوغرافي مثل الفنان الغابري ..وذلك على صعيد الحقوق الأدبية لنتاجه الفني والتي تهدر علناً وعلى مستويين: داخلي في شارع الصحافة ..وخارجي في مسابقات ومهرجانات عربية معترف بها كما حدث معه في الكويت..!!؟ لكن ثمة عزاء خارج الحدود العربية .. دولياً.. لقطات استثنائيات الحدث والكادر تجدها تحصد جوائز عالمية بعد أن طبقت شهرتها الآفاق.. وعل أقرب دليل: « توأم الفزع»..!!
إنه الغابري.. مهرجاناته الضوئية.. اختر ما شئت.. وسيداهمك ذات الإحساس.. أنها قريبة منك.. أنك تعرفها.. أنها منك وفيك .. حتى وإن جهلت اسم المكان الذي أسرتك تفاصيله فواحة الحيوية بيسر وتلذذ وابتهاج.. في زمن اقل ما يقال عنه أنه قياسي...وبجهد لن تبالغ أن وصفته بأنه لا يكاد يذكر..!
إن شئت أن تكون فوتوغرافياً ذائع الصيت.. فعليك به.. اقترب من عوالمه بتأن وعلى خطوتين... الأولى : انصت لخبرته اللامحدودة لتقف حقاً على شروط النجاح:» الوعي والثقافة وحب هذا الفن البديع» لذا فعلى أي مصور « أن تكون عنيه.. جميلة ويكون حسه ذكياً وأن يكتشف أسرارً الوطن وأن يتمتع بالذائقة الجمالية»
وإليك خطواتك الثانية: يواقيته النادرات.. ارتشف ألوانها.. تهجى مشاهدها من أعلى الكادر إلى أسفله . .اقرأ الوجود بحب.. تصفح الكائنات بفضول.. ارتحل مع الأماكن بشغف.. أدرس أدق دقائق تفاصيل لقطاته وستصل إلى معادلة مستحيلة التحقق.. لكنها بشكل ما تجلت لكن غوامضها.. وتكشفت لك مخافيها..وستكون جاهزاً للبدء.. للسير وحيداً في مجاهل الفن وأغوار الفوتوغرافيا...وستشهد له سراً وعلانية.. ذات جميل.. أنه الرائد الحق بالمنازع.. فأنت تعرفه تماماً إنه الفنان عبدالرحمن الغابري..
في معرضة الشخصي.. تجول توقف تمعن در تأمل.. وستجدك من تلقاء دهشتك وأنت تلمّ تراتيله العذاب بعيونك بخيالك بمتعتك بقلبك بكلك.. ستجدك بوعي أو بلاوعي تردد مع مايسترو « أزاهير الشر» شارل بودلير.. التقاسيم التالية: « إنها تشبه نعنعه الماء... لا يفضل بعضها على البعض.. تنفث السحر كالفجر ..وتغدق السلوى كالليل.. نفسها يتصاعد موسيقى ... وعطرها يضوع طيباً».
وسرعان ما ستقف على ما وراء الحيرة..!!؟
سحر كهذا لا تصنعه كاميرا.. لا ولا تخلقه عدسة..
السحر كله مخبأ في صاحب السحر.. فلا عينه كعينك..ولا رؤيته كأي رؤية..
كلمة السحر.. ثمة أخرى..ثالثة.. عين مجهولة الصفات.. تقبع طي لفائف روحه السرية.. هي من تصطاد له التفاصيل.. إنها مرشده الصادق ودليله الأمين إلى فيروز المشاهد.. إنها مجمعة..مكونه.. مخلوقة من عناصر شتى .. أولها: حب الحياة.. وآخرها امتلاكه مقاليد الفوتوغرافيا..!.
لم يعد يحتاج لكاميرا مثل بقية المصورين.. ما يحتاج إليه حقاً هو فضاء مغاير أو مألوف لا فرق.. وميقات ما كان معلوم أو مبهم.. وسيمضي بك إلى سماوات الروعة وفراديس الأروع.. لأنه فارس محنك حفظ الميدان عن ظهر مهارة وصدر فراسة وقلب حدس.. التجارب صقلت خبرته ..فبات الأول والأمهر والأحذق. قطف صورة عنده..هي مباراة شطرنج.. مواجهة يخوضها للمرة الألف بعد الألف.. بلا ملل أو ضجر..!!مسبقاً يدري تكتيك الخصم.. يعرف تماماً ما نوع النقلة القادمة والخطة البديلة.. لذا فهو مستعد لأي تحرك مهما كان على رقعة المنظر.. سيكسب التحدي.. سيكون الفائز بلا منازع مهما كانت الظروف وأياً كانت الاحتمالات ..لأنه مصور فنان حتى قبل أن يضع إصبعاً على زر الفلاش.. أو تلهفاً على عدسة كاميرا..!!؟
أساطير.. توائم..!؟
الفنان الفوتوغرافي.. مثله مثل أي مبدع آخر: شاعر روائي موسيقي تشكيلي..إلخ.
الحياة المعاشة.. المحيط البييء .. الموروث الثقافي.. كل هذه العوامل .. وغيرها تعد عنده ينبوعاً ثر الإلهام.. وما عليه سوى التدقيق والاختيار..لكن ثمة صعوبة تواجه ممارس الفن البصري خاصة الفوتوغرافي.. فكل ما حوله وما يحيط به هو مصدر خصب.. يفيد من يقصده وينفع من ينهل منه..لكن المسألة برمتها تحددها معايير أولية على شاكلة: كيف يبدأ ويبدو والأهم متى ولماذا ..؟؟!!
لنحصي شيئاً من المتاح والممكن:
> الاتجاه: مدينة - ريف
> المكان: معمار - أوابد - بنى تحتية: رئيسية وترفيهية.
> التفاصيل: سهول - وديان - بحار - شواطئ - صحاري - جبال - غابات - إلخ.
وبين ذلك كله وغيره: الإنسان وشتى نشاطاته المألوفة إضافة إلى الكائنات على اختلافها.. إجمالاً.. إنه واقع خام تماماً وهو ليس المطلوب بالدرجة الأولى.. إذ إن المطلوب أولاً وأخيراً..جملة وتفصيلاً:هو العلامة الفارقة.. الأهم.. الأروع.. الأندر.. الحجر الثمين..!! الماس النفيس ..لا جدوى منه عند استخراجه لأنه مشوه.. مخفي ومطمور ومحاط بأكداس وأكداس من الأتربة والشوائب العالقة به..يحتاج لكثير جهد ممهور بخليط صبر وفن وذائقة.. ليستطاع الوصول إليه من أجل تنظيفه وصقله.. ليشرق البريق وتكتمل القيمة فتغدو الجوهرة الأغلى جاهزة حقاً للتمتع بها..وهو تماماً ما يضعه نصب حاسته الإبداعية مصور محترف مثل الفنان عبدالرحمن الغابري و إلا ما كانت الصورة التحفة عنده» برهان للأشياء» كما صرح في حواره مع وديع العبسي ..مضيفاً دلالة أعمق »الصورة مرآة تلفت انتباهنا إلى الجمال كما تلفت انتباهنا إلى القبح وفي كلا الحالتين تحرك فينا الرغبة إما نحو التأكيد على ما هو جميل أو انتقاد ما هو سيء» ولا يكتمل تعريف كهذا إلا مع إضاءة أخرى تتعلق بالوطن.. والذي يعتبره الغابري الفنان «لوحة جمالية ينبغي الحفاظ عليها من أية أعمال تشوه هذا الجمال».
هكذا إذن.. إنه مشوار عطاء إبداعي حافل يمتد إلى مسافات تربو على العقود الأربعة.. زركشها بالمدهش والمثير من اللآلئ الفريدة خلال رحلاته التصويرية التي ينفذها بين حين وآخر.. يتجلى فيها منتهى الفن على أجزاء في هيئة جواهر منتقاة تتفاوت في ألوانها وأشكالها وزخارفها وسنا إشراقها، وستفعل فيك مفعولها ستشرق وتغرب بك في أنحاء هذه »البلدة الطيبة« ستطوف مع تنويعاتها »أرض الجنتين« من أقصى صحرائها شمالاً إلى أقصاها شرقاً وما بين البحرين غرباً وجنوباً على قمم الجبال داخل الوديان ووسط القيعان، قريباً جداً من الغابات والأنهار والعيون بعيداً غُب التاريخ وسط القلاع والحصون وما جُهل أو عرف من أثار وأوابد عميقاً في قلب بدائع الجزائر اليمنيات..!
لقد حفظ الوطن همسة همسة وغمزة ولمسة.. عشق كل ما فيه.. أدمن على مهرجانات الطبيعة وأعياد الكائنات حتى غدا اليمن عنده مع كل رحلة تصوير جديدة - كتاباً يُعيد تصفحة بمجرد أن تقع لهفته على عنوانه، وهو كتاب غير كل الكتب، فمع كل موعد جديد في جهة أخرى مألوفة تجده يدخل مجدداً مغامرة اكتشاف مذهلة المقاييس..!
تقديسه للروعة.. تبجيله للجمال.. تواضعه إجلالاً للبهاء.. يجعلة زائراً مبتدئاً ويطبع جولته التصويرية بطابع التهيب، فتراه يمارس لحظاته - ولحظاتها كذلك - وكأنها أولاه وتكون النتائج النهائية مرضية مبهرة، لا بل أكثر.. سلسلة مفاجآت غير متوقعة له : جواهر جداد كنوز بكر يضيفها إلى ألبومه الشاسع الجودة والفرادة، كماً وكيفاً..!!
مع الغابري الفنان تجري الأنحاء على نحو مختلف عن غيره من المصوريين، للمشهد - ما كان - شروطاً ومعايير لا بد من توفرها حتى تكتمل الذروة، وهكذا وما إن يصل إلى المكان المستهدف حتى يستعد له كلياً يهيئ جوارحه كلها وهو يقف على ضفاف المكان يتمتم مفاتنه أولاً بشكل موجز.. تماماً كما نطالع فهرس أحد الكتب الجديدة، ثم في ميقات محدد سلفاً تجده يُنقّل خطواته بهمس متيم مأسور اللب لحظة تغنيه بمعبودته.. يتأمل حوله وحواليه متيقظة حواسه حد الإصغاء.. كاميرته في يده وأصبعه على زر الفلاش.. يدور بحذر وترقب قناص محنك يغوص في غياهب معسكر عدو غامض لا يعرف له أسلوباً ولا يدري ساعة ظهورة المباغت ولا كيفيته لذا لا بد من أقصى درجات الحيطة والانتباه.. هجوم فجائي لنادرة مميزة - تشل الحواس لجماليتها المذهلة حد الخرس - تستوجب منه سرعة الرد بالبضغط على زناد الكاميرا لصد الهجمة وحصد المعركة والانتصار في حرب القوي والأقوى..!
إلا أن توله الفنان عبدالرحمن الغابري باليمن أرضاً وإنساناً تاريخاً وحاضراً زاد عن حده طغى حتى على قدرته الشخصية على العشق اللامحدود، إنما في جزئية فيه رغم نأيها عن معظم تقاسيم الوطن المتلاحمات الملتقيات ببعضها البعض، أتدرون هذه الجزئية ما هي؟ إنها توأم أسطورته الأصل : محمية عتمة.. إنها جزيرة سقطرى، لكن لماذا هي بالذات؟ ماسرها ياترى..؟!
في حوار البعيثي معه يجيبنا الفنان الغابري فهو أول فوتوغرافي يمني يبرزها من خلال معارضه الشخصية التي خصصها لسقطرى وماذا..؟! بجهوده وإمكانياته الخاصة ولا ننسى قناعاته الذاتية التي دفعته - وما زالت تدفعه - إلى الاعتقاد أن سقطرى أجمل جزر العالم »من حيث ما تختزله من مقومات سياحية ومناظر طبيعية ساحرة وما لها من تنوع بيئي وموروث حضاري«، موقف فكري كهذا لا بد أن نتاجة كان كثيراً والأهم مميزاً فما بين (1989 - 2008م) نظم الفنان الغابري ما لا يُحصى من الرحلات التصويرية أبجدها في سبعة معارض شخصية وعلى نفقته الخاصة »كما عملوا من بعض الصور التي أخذتها لسقطرى طوابع بريد«، لكن من يصدق أن كل هذا الهيام بالمحبوبة سقطرى كانت لحظته الأولى مكاناً وزماناً علامة فارقة حقاً في مشواره الإبداعي.. ولا أصدق تعبيراً من حكمة عميقة تمثلتها مقوله : » لا يرحل الإنسان بعيداً عن وطنه لدى هجره أهله ومفارقة أرضة بقدر ما يرحل داخله ويسافر نحوه ويصل إليه أكثر وأسرع كما يعيشه فيه وهو بعيد عنه في مغترب ما« وهو العقد الذي انتظمت فيه حبات العقيق اليماني والتي تدرجت مفارقاتها مذ التعارف الأول بين المبدعين الكبيرين: الغابري وسقطرى قرابة العام 1970م، وهو في الشام منكب على دراسة باقة فنون بصرية وأدائية » الإخراج السينمائي التسجيلي - الموسيقى - المسرح« أما وسيط التعارف الأزلي هذا فكان مجلة عربية نشرت في أحد أعدادها حينذاك استطلاعاً عن سقطرى، سطر معظمه بالكلمات على حساب الصور، وعلّ هذا هو ما حفزه على مشروعه السقطري لامتناهي الاستثنائية لحد جعله يقرر في حواره مع العبسي أن بكر رحلاته إليها كان لها تأثير كبير على حياته المهنية و»المهم أن هذه الرحلة إلى سقطرى نقلتني نقلة كبيرة«.
ختم
«الفنان عبدالرحمن الغابري كما عرفته من خلال معارضه التي أقامها في صنعاء، وكذلك ما نشر له من صور فنية في الصحافة واحد من الفنانين الذين يعملون على أن يكون للصورة دور جمالي بعيداً عن مهمتها الأيقونية، فهو لا يكتفي باختيار كادر الصورة أو زاوية المنظر إلى النموذج المصور، بل يعتمد على إضافة لمسته التي تجعل الصورة تكويناً أو إنشاءً بصرياً مفتوحاً للقراءة».
د.حاتم الصكر -
مراجعات
1- البدايات والمحاولات : »أمي أولاً« يقول الغابري الفنان أما لماذا هي بالذات..؟! ففي إضافته : »لأني كنت أرى فيها صورة مكتملة لمكونات الأرض أمي ومن بعدها الحقل« ثنائية الروح هذه وعشقه التام للفوتوغراف ثالوث حنين أطر بين أقواسة الخطوات الفنية الأولى »المهم صورت أشياء كثيرة لكني كنت مهتماً أكثر بصورة أمي ولا أزال محتفظاً بها، كما لا أزال محتفظاً بأمي يرحمها الله في نفسي«، وكاميرته الأولى؟ تحصل عليها بجهد شخصي »كانت بسيطة جداً في حجمها وإمكانياتها وكبيرة وشيئاً عظيماً وقيماً في نفسيتي عندما حصلت علهيا في الستينيات واستطعت أن أتعامل معها وأوظفها بصورة جيدة«
2- شارع الملكية : كيف تتعامل الصحافة مع الصورة؟ كمالة عدد، ومع المصور؟ مواطن من الدرجة الأخيرة..! مبالغة..!؟ تجن..!!؟ تجربة الغابري الفنان عندها الخبر اليقين، وفي تنهيدتين تقطران مرارة أليمة بدؤهما علاقة الصحافي بالمصور ثمة زمرة من الفئة الأولى تعتقد أنها من المحترمين لكنهم »غير ذلك للأسف الشديد، حيث لا يهمهم ذكر اسم ملتقط الصورة بقدر اهتمامهم بذكر اسمائهم على المواد الصحفية التي تنشر ومنتهاها: مع صاحبة الجلالة نفسها «العديد من الصور التي تخصني نشرت بأسماء آخرين رغم أني الذي اعطيتها لتلك الصحف التي تنسبها للغير»!!
والضفة الأخرى ماذا عنها..؟!
ثمة حالة علها تشكل استثناءً لا قاعدة.. ففي مسابقة إقليمية للتصوير أقيمت في دولة الكويت تخير الغابري الفنان لقطة فريدة إبهارها لأحد بنيه في سن الطفولة اليانعة، وهو بكل براءة وجمال فاتحاً فاهة يتثاءب.. شارك بها وقد عنونها بلا تعقيد أو استعراض عضلات ثقافية باسم بسيط هو »تثاؤب« انتهت المسابقة ظهرت النتائج، لكن لم يصدق الغابري الفنان ما تطاير على مرأى منه ومسمع من مجريات.. لقطته ذاتها هي هي لم يتغير فيها شيء أي شيء عدا »أسخف ما نحمله«، حسب تعبير خالد الذكر نزار قباني - وهو الاسم، وهكذا فإن اللوحة الفائزة هي المسماة »آلهة النوم« وكان أن باركوا وهنوا وكرموا ملتقطها المبدع، لكن »فوجئت في نهاية المسابقة أن الصورة التي قدمتها للمسابقة نسبت للغير »لفتاة كويتية« ونالت عليها المرتبة الأولى«..!!
3- توأم الفزع: واحدة من لقطات الغابري الفنان والتي طبقت شهرتها الآفاق على المستوى الدولي، وما ذاك إلا لتجذر ثقافة عميقة وبناءة تقوم على مبدأ إحترام الآخر وتقدير نتاجه والإعتراف قبل التعامل بقوانين حماية الحقوق الفكرية، يقول الفنان عبدالرحمن الغابري عن لقطته هذه : »كانت لطفلين أو طفلتين نجيامن الزلزال الذي تعرضت له محافظة ذمار حينها عام 1982م، فانحنيت لهما وكانت كل واحد منها محتضنة الأخرى صورتهما وكان الفزع ظاهراً في عينيهما، ولذلك كان لهذه الصورة تأثير كبير لدى الكثير.. وقد نشرت ضمن مجموعة صور عن اليمن.. تبين حجم كارثة الزلزال.. وفازت عالمياً« في world photo prss بهولندا عن الصورة الصحافية.
٤- العقيق اليماني: ٠٧٩١م.. دمشق الشام.. شهر آخر وعدد جديد من مجلة العربي.. أبرز ما فيه استطلاع عن جزيرة سقطرى (كان الوصف رائعاً وجميلاً.. رغم أن الصور قليلة) دقة وصف الطبيعة السقطرية والتنوع البيئي.. فعل فعله في قلب الغابري الفنان.. والذي صادف نظائر كثر فيه.. والأهم أن مفرداتها كانت من معظم ما أنجذب إلى سحره صغيراً وهو مأخوذ اللب بنجوم فردوسه العظيم: محمية عتمة (ولذلك قمت لحظتها بعمل مقارنة ذهنية بين حبي لهذه الأشياء وبين مكونات الطبيعة ووجدتها مغروسة في نفسي)، أحلام وتمنيات لكن لا منفذ.. حتى لاحت المعجزة عام ٩٨٩١م.. حيث (جاءت الفرصة من خلال رحلة خاصة بتوحيد المنظمات الجماهيرية.. كان فيها الأستاذ الراحل عبدالله البردوني)، وعَدّ من أدباء ومثقفين ومفكرين يمنيين وعرب.. المصور الفوتوغرافي الوحيد بينهم كان الفنان عبدالرحمن الغابري والذي تفرغ لسقطرى تماماً (عملت بجهد ومسحت سقطرى بالصور ليلاً ونهاراً).
٥- »والأذن تعشق قبل العين أحياناً«: شطر بيت شعري مشهور نقشه في ذاكرة الدنيا خالد الذكر بشار بن برد.. لو غيرنا موقعي الأذن والعين وقدمنا هذه الأخيرة.. وأبدلنا الأذن بالقلب وأحياناً بغالب.. فسيكون لمعادلتنا هذه نتيجة واحدة هي: عبدالرحمن الغابري فنان مع مرتبة الموسوعية، ولا أدل على ذلك من الشواهد المستقاة من سيرته الذاتية.. التي تقص حكاياته مع الإبداع البصري بأنماط متعددة من فنونه.. فعلى صعيد الدراسة المتخصصة نجده حاصل على عدة دبلومات: مسرحي وآخر موسيقي/ سوريا ٣٧٩١م.. الإخراج السينمائي التسجيلي/ لبنان ٥٧٩١م.. ودبلوم عالٍ في التصوير الفوتوغرافي/ بغداد ٦٨٩١م وهو ما ينقلنا إلى الواقع العملي.. حيث قام الفنان الغابري بتنفيذ عدة أعمال في مضمار الإخراج.. فهو مخرج مسرحي.. كما عمل كمخرج مساعد للفيلم التسجيلي »كفر شوبا«.. وقام عام ٥٧٩١م بإخراج فيلم »مكان الولادة فلسطين«، يضاف لهذا معارضه الشخصية.. والتي توزعت بين المحلية منها حوالي (٠٥) معرضاً.. وبين الخارجية.. منها ستة معارض: عربياً (الكويت - العراق - ليبيا - عمان - تونس - الجزائر)، ودولية أقامها في (أمريكا - روسيا - بريطانيا - ألمانيا - فرنسا)، أما على الصعيد الإداري.. فلا تسجل لنا سيرته الذاتية والتي توفرت للكاتب، والمنشورة في ملحق الثورة الثقافي بتاريخ ٠٢/٢١/٨٠٠٢م، سوى منصب واحد هو مدير المسرح العسكري ٥٧٩١- ٧٧٩١م.
إحالات
١- عن شيء من حكاية الصورة: حوار وديع العبسي - »ملحق الثورة الثقافي« ٢٢/٢١/٨٠٠٢م.
٢- الصحافة قائمة على الصورة: حوار محفوظ البعيثي - »صحيفة الثورة« ٠١/٧/٤٠٠٢م.
٣- في البدء كانت الصورة: لحسن موهو - جريدة الفنون - العدد (٢٢) أكتوبر ٢٠٠٢م.
٤- التصوير الفوتوغرافي فن فن الرسم بالضوء: عبدالمنعم الباز - جريدة الفنون - العدد (٣) مارس ١٠٠٢م.
٥- تجربة الغابري التصويرية: د. حاتم الصكر - مجلة اليمنية - العدد (٩١) إبريل ٦٠٠٢م.
> الحكاية القادمة: «كائنات» آمنة النصيري.
|
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
RSS |
حول الخبر إلى وورد |
|
|
|
|